أداة تخصيص استايل المنتدى
إعادة التخصيصات التي تمت بهذا الستايل

- الاعلانات تختفي تماما عند تسجيلك
- عضــو و لديـك مشكلـة فـي الدخول ؟ يــرجى تسجيل عضويه جديده و مراسلـة المديــر
او كتابــة مــوضـــوع فــي قســم الشكـاوي او مـراسلــة صفحتنـا على الفيس بــوك

قصة صحراء رمادية . بقلم / القاص محمد سمارة

محمد يوسف

ابو الحسن
إنضم
23 أغسطس 2019
المشاركات
76
مستوى التفاعل
73
النقاط
18
العمر
58
الإقامة
العراق - بغداد
127243136_3536685473084229_4080984032849694807_n.md.jpg

(( صحراء رمادية .. هي احدى القصص التي لم تنشر بعد لكتاب يحمل اسم " اجنحة الروح" بقلم الاديب والقاص الراحل محمد سمارة ))

في عربة القطار جلس الرجل العجوز, مستندا الى النافذه , ينظر – من وراء الزجاج - بعينين مطفأتين الى المودعين , و قد شعر انه اليوم متوحد تماما, متوحد كما لم يكن متوحدا من قبل .

لبرهة دخلت القطار فتاة صغيرة السن متأنقة . نظرت فيما

حولها اول الامر مترددة, واذا رات الكرسي الفارغ الى جانب العجوز تقدمت بهدوء وجلست . نظر العجوز الى الوجه الملون ,

واليدين الرقيقتين , وقد استاف رائحة عطرة , وغمغم بشيء ما , واشعل سيجارة . راقب الاشجار و العواميد و الوجوه التي اخذت تختفي من وراء النافذة تدريجا , وكان يترامى اليه صرير العجلات وهي تتحرك ببطء , مصدرة صوتا غليظا اجش , وقد بدا له ذلك كصوت عظام تتهشم . لدقائق ظهرت الصحراء , مترامية الاطراف , منفرشة على امتداد الافق , ساكنة تماما حتى خال العجوز ان القطار لا يتحرك وتسال مبهورا : الى اين تنتهي حدود الصحراء هذه ؟

وتراءى له المودعون يقفون في الطرف الاخر من الصحراء , يحدقون في الفراغ , يلوحون بايد متعبة , وقد بدو كحبات من الرمل الناعم , وقال : اين موقعهم الان من الصحراء ؟

التفتت الفتاة مبتسمة : ماذا تقول ؟

فوجىء العجوز , نظره في الوجه الملون , والقلاده الزرقاء اذ هي تتارجح وقد ادرك بانه كان يفكر بصوت عال , وقال مرتبكا : لا شيء .

انني افكر في الصحراء فقط . هل هي بلا حدود حقا ؟ ضحكت الفتاة . وضعت ساق على ساق و حركتهما بطريقه مرحة هادئة و قالت :

ماذا تقول انت ؟

لوح الرجل بيدين حائرتين وقد بدت له الفتاة جميلة ورقيقة : انها كبيرة طبعا . كبيرة جدا . الا تظنين انها تستوعب مئة قطار مثل هذا ؟

كركرت الفتاة ثانية , واهتز نهداها الصغيران , وبدت الغمازتان على خديها الحمراوين كوردتين صغيرتين . وقال العجوز في سره : لا شك انهم ينتظرون وصولهما الان بلهفة , وربما يتساءلون ما الذي اخرها لهذه الساعة ؟ وبوغت بشجرة راها تنتصب في الصحراء كعمود كهربي , شجرة جرداء عارية , وتسال : كيف يحدث هذا ؟

اقترب من النافذ محملقا, واشار باصبع مرتجفة من وراء الزجاج وهمس : ولكن كيف تعيش هذه الشجرة ؟

وقالت الفتاة : ايدهشك هذا ؟

اضطرب العجوز . حملق في الشجرة من جديد : لكنها وحيدة . الا ترين انا وحيدة تماما ؟

- لكن جذابة على اي حال . الا ترى انها تصلح لوحة رائعة ؟

لم يجب الرجل , و اخرجت الفتاة - من حقيبتها – سيجارة , وضعتها في فمها , ونفثت الدخان الى اعلى , وكان الرجل يراقب ذلك كلمخدر .

سحبت مجلة مصورة , تصفحتها وهي تدندن وكان العجوز قد لمح وجها لاطفال يبتسمون والى جانبهم قطط صغيرة ملونة, وهمس بحزن : لن اجد احدا في انتظاري .

نظره الى جهه الشجرة التي كانت قد اختفت تماما , وتخيلها تنتصب في موقعها , وكان الغبار يلف الفضاء كدخان السواد , وتساءل ما اذا كان ما راه شجرة فعلا , ام انه كان يحلم فقط ؟

وقال : ولكن لم هي وحيدة ؟ ارتسم القلق على وجهه . راقب الفتاة التي مازالت تقلب المجلة وندندن بمرح , وقد تركت نهديها الصغيرتين يندلقان خارج الثوب , ولم يكن العجوز قد صحا من ذهوله بعد .

في المحطة التالية توقف القطار , وفوجىء العجوز بحبات ثقيله من المطر تلتصق - من الخارج - بزجاج النافذة , وتسيل مكونة خطوطا متعرجة صغيرة . التفت الى الفتاة التي كانت قد غفت تاركة مجلتها تنزلق من على ركبتيها الى الارض وقال : اكنت لقد خفوت انا الاخر ؟

راقب خطوط الماء على الزجاج وهي تتباعد وتتقارب ثم ما لبثت ان تلتهم صانعة خطا عريضا واحدا , ينحدر اسفل النافذة ويختفي .

ومن بعيد بدت الصحراء مظلمة تماما , قطعة هائلة من السواد , بيد ان ثمة خطا ضوئيا متعرجا كان يشق الظلام بين فترة واخرى كمصباح كهربي فتتوهج الصحراء على الاثر , وتصفح عن ذلك الفراغ الدائري الذي يشبه طبقا كبيرا , لكنه -وكمان فكر العجوز - طبق فارغ تماما .

وخطر له ما سمعه عن ذلك الرجل الذي تاه في الصحراء سبعة ايام . لقد ظل المسكين خلالها يبحث عن الاتجاه الذي يريد .يحدق في النجوم التي كانت قد اختفت بسبب من المطر الثقيل , والغيوم المتراكمة . وحين توقف المطر - وكان ذلك بعد ثلاثة ايام – وانشعت الغيوم , كان الرجل قد سقط اعياء ولم يعد ثمة نبض في صدره . وقال العجوز ك الم يكن هناك من يعلم بوجوده ويسعفه في المحطة الاخيرة ؟

وقبل ان يفكر ثانية فيما اذا كان ما سمعه عن ذلك الرجل حقيقة , استيقظت الفتاة , ونظرت فيما حولها اول الامر مندهشة , حتى اذا وقع بصرها على الرجل لانت ملامحها , ودعكت عينها بخجل , و تناولت المجلة وهي تبتسم . نظرت الى النافذة . واذا رات المطر هتفت مبهرة : رباه .

انها تمطر .. انها تمطر حقيقه , ولكن لم لم توقظني ؟

ذهل الرجل ولماذا ؟

- انني احب المطر . احبه وهو يتساقط من وراء الزجاج صانعا عوالم صغيرة رائعة .كنت وانا صغيرة اجلس الى النافذة , انظر بعينين مبهورتين الى قطرات المطر , اتخيلها اناسا , وعربات , وشوارع . اراهم يسيرون , ويضحكون , ويثرثرون . اناس بلا هموم .عالمهم دمى ملونة , وضحكات رقيقة. يقولون ان الشعراء واحدهم يحبون المطر .

ينظرون من وراء الزجاج مراقبين الحبات اللؤلؤية وهي تنزلق ببطء . ببطء لذيذ , حيث تتشابك , وتتفرق وتصنع خطوطا تلهم الشعراء لقول الشعر ,. الشعر الذي تصنعه قطرات دقيقة صغيرة الم تسمع بهذا ؟


  • ربما .. لكنني لا اذكر
انظر .. انها فارغة تماما . خالية من كل شيء . مع هذا فهي تكاد تنطق , و تبوح بكل شيء . الم تتامل صحراء ماطرة من قبل ؟

- كنت قد تاملتها وانت نائمة .


  • - لكنك لم تستمع بذلك . انك تبدو بائسا تماما .
  • - ذلك اني متعب فقط .
  • ظلت الفتاة تحملق في الزجاج . لبرهة قالت كالهمس : لقد حلمت قبل قليل اني اركب قطارا مثل هذا بالضبط .قطارا كان يتحول احيانا الى طير ابيض , يرفرف باجنحته التي لم اكون لاعرف مم صنعت هي , ويحلق عاليا , فوق الصحراء التي تحولت الى بساتين خضر, وجداول , وكان الناس يطلون من النوافذ فرحين , ضاحكين , دون دهشة , كان من العادة ان يكون للقطار اجنحة .
  • ضحكت الفتاة : هل حلمت بمثل هذا ؟
- كلا لكنني حلمت قبل قليل انني عار في الصحراء وحيد . اتسعت عينا الفتاة . فتحت فمها مندهشة, وأردفت العجوز : واذ وجدت نفسي وحيدا عاريا الا من ثياب شوكية رحت اتطلع فيما حولي واقول مخاطبا احدا ما كيف حدث ان فقدتهم غير انه لم يكن ثمة من يستطيع سماعي بالمره سوى الصحراء والفضاء اللا متناهي تطلعت الى الشجرة الوحيدة التي كنت اراها تلمت تقدمت منها والتكت على اغصانها العاريه وفجاه واذ حاولت النهوض و تكمله المشوار الذي لم اكن اعرف عنه شيئا شعرت بقطرات من الماء تبلل رقبتي فقلت في نفسي عجبا هل امطرت السماء والفصل صيف ؟ وحين نظرت الى اعلى اكتشفت اني واهم فيما ظننت فلا مطر ولا غيوم البته وانما كانت الشجرة تبكي .

قالت الفتاة : ذلك وهم , ربما كان من تأثير اكلة دسمة.

قربت وجهها من النافذ. انفرش انفها على الزجاج ,. وقالت هامسة : لا شك انهم ينتظروني الان في ذات المحطة يراقبون قدومي , ويتساءلون في اي ساعة سيكون ؟ الا تعتقد انهم يقفون الان تحت المطر ؟

- لا ادري .

-انهم يقفون حتما . ينظرون الى القطار وهو ينزلق علي القضبان ببطء . ببطء جميل , متجها الى حيث يقفون *

***********

بعد دقائق , توقف المطر . وكانت الفتاة ما تزال ملصقة وجهها الى النافذة تنظر الى الصحراء , ترقب حبات المطر الضئيلة وهي تتكمش على الزجاج وتلتم بهدوء , وقد بدا ذلك العجوز مثيرا للمراقبة على نحو ما . ضحكت الفتاة , واستدارت اليه , وكان العجوز قد لاحظ اصابعها التي بهتت قليلا , وسال جزء منها على رقبتها البيضاء , وقالت : لربما رويت شجرتك الوحيدة الان .

قال العجوز : من يدري . فربما تكون قد غرقت .

- يا الهي , كيف هذا والصحراء تستوعب بحرا من المياه ؟

نظرت ثانية من وراء الزجاج . لبرهة قالت بصوت فرح : انني اكاد اراهم من هنا , يلوحون بايديهم للقطار اذ هو يقترب . انظر .. الا تراه يلوح وقد ارتدى معطفه المطري , ووضع تلك الوردة التي .. التي ..



اقترب العجوز مندهشا . حملقق من وراء الزجاج : اني لا ارى احدا , لا أحدا البته سوى الظلام والمطر *

لم تجب الفتاة مسحت بباطن كفها الزجاج الذي ظل مضببا ثم التفتت الى الرجل : هل تبغي المحطة التالية ؟

- لا ادري.

- يا الهي . اهناك انسان لا يعرف اين يتجه؟

- انني ذاهب الى مكان ما على اي حال . لم يعد ثمه من ينتظر وصولي .

- ولماذا ؟!

في ما مضى كان رجل يجلس في غرفته الصغيرة , ينظر من وراء النافذة الى طريق , ويتساءل بمزيج من اللهفة والقلق : هل سيعود احمد في اجازته المعتادة اليوم؟ وحين يلمحه قادما من رأس الطريق ببدلته الكاكية فارعا , ضاحكا , يندفع الرجل بفرح الى الباب , وما يلبثان _ الاب والابن _ ان يجلسا , ويثرثرا بلهفة , يتدافع الحديث من افواهما سريعا . سريعا كطلقات البندقية التي يحملها احمد . يلغطان في ان واحد : عن الاجازة المقبلة والعملية الفدائية التي قام بها , والخسائر التي لحقت بالعدو. ثم يصبان الشاي, ويبدا حديثهما همسا , ويصيبان شايا اخر واخر . واذ ينتهي الابريق يكون الاثنان قد راحا في سبات عميق .

في الاونة الاخيرة , وكان العجوز ينتظر وراء النافذة كالعادة فاجأه احساس ان ثمة شيئا ما قد حدث . واذ دق الباب بعد لحظات , مد رجل لم يره العجوز من قبل , يده برسالة . اندهش العجوز وعاوده ذلك الهاجس الذي تحول في تلك اللحظة الى يقين وقال : احدث شيء لاحمد!

ارتبك الرجل لكنه اجاب انها رساله من القيادة . لحظتها

ادرك العجوز كل شيء وهمس هل مات احمد؟ لم يجب الرجل الذي بدا الحزن في عينيه واضحا لكنه قال اخيرا بصوت مرتعش لقد مات وهو يحتضن سلاحه .



لم يكن الرجل العجوز ليدرك تمام الادراك _ وغالبا ما كان يصيبه هذا - ما اذا كان قد اخبر الفتاة بما كان يدور في راسه . بيد ان وجه الفتاة وهي تنظر اليه برفق, وتسمعه بين لحظه واخرى نكته طريفة , وتصب له شايا من "الترموس " الذي لم يكن لعجوز قد لحظه معها اذ دخلت , جعله يوقن انه اخبرها بكل شيء , وانها على علم بما يختلج في صدره الان . ضحكت في وجهه . صبت له كوبا اخر من الشاي , وكانت الشمس قد بزغت من وراء الافق واندلقت اشعتها من خلال النافذة الى وجه العجوز . سحبت الفتاة مجلة وتاملت صورة رجل يداعب مجموعة اطفال , وقد بدا الرجل , والاطفال يداعبون لحيته اليضاء الكثة مسرورا للغايه . ناولت الفتاة المجلة للعجوز الذي ما ان راى الصورة حتى اشرق وجهه , وقال : كان احمد تفعل مثل هذا تماما . تصدقين انه كان يفعل هذا معي وهو صغير؟


  • وهل كانت لك لحيه كثة كهذه؟
  • اجل. لكنني قثصتها في ما بعد .
فغرت الفتاة فاها : ولماذا؟

تردد الرجل . قال ضاحكا : لانني اذا لم اقصها فيلسوف ينتف شعيراتها واحدة واحدة .

ضحكت الفتاة بشدة . مالت على الرجل العجوز

دامعة العينين , واذا هدأت قال الرجل اتصدقين انه لم يكف يوما عن كتابة الرسائل الي من هناك ؟ اخر رسالة وصف فيها وجهي انه حديقة مزهرة .

كركرت الفتاة اخرجت سيجاره ناولتها للعجوز , واشعلت هي اخرى . نفث العجوز الدخان بهدوء كتب في احدى رسائله ان خطواتنا تزهر بساتين وانهارا وجداول . اليس رائعا ان تزهر الخطوات جداول ؟

اشرق وجهه الفتاة فجاة . قالت بحماس : من يقول هذا شاعر . مؤكد ان احمد شاعر .

قال العجوز : حسنا انه يحب الزهورايضا .

**************

قالت الفتاة : انظر .. تلك شجرة اخرى وحيدة . نظر الرجل من وراء النافذة . راى الشجرة منتصبة وسط طوفان من الرماد والفضاء اللا متناهي . قال : ولم هي وحيدة ؟

- لكنها ستثمر يوما ما . ياتي الخريف فتساقط بذورها التي سرعان ما تنبت وتمد جذورها في الارض وتتحول الى شجرات اخرى قريبه وما هي الا سنوات حتى تمتلئ الصحراء بالاشجار وتتحول الى مساحه كبيره من الاخضرار .

انبسط اسارير الرجل . ضحك بسرور : اتدرين اني سهوت عن ذلك ؟

- ولماذا؟

ارتبك الرجل لوح بيدين مترددتين ورمى سيجارته التي لم تنتهي بعد , نظرت الفتاة من وراء النافذة , ومسحت بيدها الزجاج الذي بدا شفافا لامعا , ثم الصقت خدها الذي انفرش على الزجاج كقطعة من القشة وتمعنت في الصحراء قالت : انهم يظهرون ثانيه وقد حمل بعضهم باقات من الزهور . ترى هل يستطيعون رؤيه يدي اذا ما لوحت ؟ استدارت الى العجوز إلا يسرك ان تراهم انظر انهم مازالوا يرفعون مظلاتهم كما لو كانت السماء ما زالت تمطر اليس ذلك طريفا ؟

نهض العجوز. ألصق وجهه في الزجاج . للحظه قال مندهشا يا الهي . انهم يبدون من هنا بوضوح . بوضوح حقا , حتى يخيل لي اني اكاد اذا مددت بدي ان امسك بهم لا شك انهم يروننا ... يروننا بوضوح ايضا , والا ما لوحوا بايديهم ولكن من هو هذا الواقف في ما بينهم اني اراه مرتديا بدلة كاكية وقد وضعه على كتفيه سلاحا .

اقتربت الفتاه من النافذة . وضعت يدها على كتف العجوز الذي مازال ملصقا وجهه في الزجاج كصبي مرح , كانت الشمس لحظتها قد اطلت من وراء الافق وغمرت مساحة كبيرة من الصحراء واندلقت اشعتها الى جوف القطار الذي ما فتىء ينزلق فوق القضبان الحديدية ببطء وهدوء كسحابة ...

 

mohammed.shams

نائب الادارة
طاقم الإدارة
إنضم
31 يناير 2017
المشاركات
2,557,385
مستوى التفاعل
193,905
النقاط
2,600
شكرا للجهود المبذولة
 

الذين يشاهدون الموضوع الآن 1 ( الاعضاء: 0, الزوار: 1 )