أوجاع ألظلام
Well-Known Member
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
القول في تأويل قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } يقول تعالى ذكره : وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد , وعندهم التوراة فيها حكم الله . ويعني بقوله : { كتبنا } فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حق بالنفس , يعني : أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة . { والعين بالعين } يقول : وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة , ويجدع الأنف بالأنف , ويقطع الأذن بالأذن , ويقلع السن بالسن , ويقتص من الجارح غيره ظلما للمجروح . وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود , وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته وإدباره عنه بعد إقباله , وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل ; يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين , وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قود , ومن فقأ عينا بغير حق فعينه بها مفقوءة قصاصا , ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع , ومن قلع سنا فسنه بها مقلوعة , ومن جرح غيره جرحا فهو مقتص منه مثل الجرح الذي جرحه , ثم هم مع الحكم الذي عنده في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به ; يقول : فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 9424 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : لما رأت قريظة النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم , نهضت قريظة , فقالوا : يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير ! وكان بينهم دم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم , وكانت النضير يتعززون على بني قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير , وكانت الدية من وسوق التمر أربعين ومائة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة . فقال : " دم القرظي وفاء من دم النضيري " . فغضب بنو النضير , وقالوا : لا نطيعك في الرجم , ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها ! فنزلت : { أفحكم الجاهلية يبغون } , ونزل : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية . 9425 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } قال : فما بالهم يخالفون , يقتلون النفسين بالنفس , ويفقئون العينين بالعين ؟ . 9426 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا خلاد الكوفي , قال : ثنا الثوري , عن السدي , عن أبي مالك , قال : كان بين حيين من الأنصار قتال , فكان بينهم قتلى , وكان لأحد الحيين على الآخر طول . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم , فجعل يجعل الحر بالحر , والعبد بالعبد , والمرأة بالمرأة ; فنزلت : { الحر بالحر والعبد بالعبد } . قال سفيان : وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها : { النفس بالنفس } . 9427 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فيها في التوراة , { والعين بالعين } حتى : { والجروح قصاص } قال مجاهد عن ابن عباس , قال : كان على بني إسرائيل القصاص في القتلى , ليس بينهم دية في نفس ولا جرح . قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : { وكتبنا عليهم فيها } في التوراة , فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فجعل عليهم الدية في النفس والجراح , وذلك تخفيف من ربكم ورحمة , فمن تصدق به فهو كفارة له . 9428 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } قال : إن بني إسرائيل لم يجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت , أو جرح , أو سن , أو عين , أو أنف , إنما هو القصاص أو العفو . 9429 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { وكتبنا عليهم فيها } أي في التوراة , { أن النفس بالنفس } . 9430 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { وكتبنا عليهم فيها } أي في التوراة , { أن النفس بالنفس } . 9431 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } حتى بلغ : { والجروح قصاص } بعضها ببعض . * - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله : { أن النفس بالنفس } قال : يقول : تقتل النفس بالنفس , وتفقأ العين بالعين , ويقطع الأنف بالأنف , وتنزع السن بالسن , وتقتص الجراح بالجراح . فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم إذا كان في النفس وما دون النفس ; ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس .
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ
القول في تأويل قوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } اختلف أهل التأويل في المعني به : { فمن تصدق به فهو كفارة له } فقال بعضهم : عني بذلك المجروح وولي القتيل . ذكر من قال ذلك : 9432 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن الهيثم بن الأسود , عن عبد الله بن عمرو : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : يهدم عنه - يعني المجروح - مثل ذلك من ذنوبه . * - حدثنا سفيان , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن الهيثم بن الأسود , عن عبد الله بن عمرو بنحوه . * - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن الهيثم بن الأسود أبي العريان , قال : رأيت معاوية قاعدا على السرير وإلى جنبه رجل آخر كأنه مولى , وهو عبد الله بن عمرو , فقال في هذه الآية : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : يهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدق به . 9433 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا مغيرة , عن إبراهيم في قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح . 9434 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث , قال : ثنا شعبة , عن عمارة بن أبي حفصة , عن أبي عقبة , عن جابر بن زيد : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح . * - حدثنا ابن المثنى , قال : ثني حرمي بن عمارة , قال : ثنا شعبة , قال : أخبرني عمارة , عن رجل - قال حرمي : نسيت اسمه - عن جابر بن زيد بمثله . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير , عن مغيرة , عن حماد , عن إبراهيم : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح . 9435 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة , قال : ثنا ابن فضيل , عن يونس بن أبي إسحاق , عن أبي السفر , قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار , فاندقت ثنيته , فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل , قال معاوية : شأنك وصاحبك ! قال : وأبو الدرداء عند معاوية , فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " . فقال له الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعته أذناي ووعاه قلبي . فخلى سبيل القرشي , فقال معاوية : مروا له بمال . 9436 - حدثنا محمود بن خداش , قال : ثنا هشيم بن بشير , قال : أخبرنا مغيرة , عن الشعبي , قال : قال ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من جرح في جسده جراحة فتصدق بها , كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به " . 9437 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا يزيد بن هارون , عن سفيان بن حسين , عن الحسن في قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : كفارة للمجروح . 9438 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن زكريا , قال : سمعت عامرا يقول : . كفارة لمن تصدق به . 9439 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يقول : لولي القتيل الذي عفا . * - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني شبيب بن سعيد , عن شعبة بن الحجاج , عن قيس بن مسلم , عن الهيثم أبي العريان , قال : كنت بالشام , وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى , قال : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : فمن تصدق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه . فإذا هو عبد الله بن عمرو . وقال آخرون : عنى بذلك الجارح , وقالوا معنى الآية : فمن تصدق بما وجب له من قود أو قصاص على من وجب ذلك له عليه , فعفا عنه , فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم , كما القصاص منه كفارة له ; قالوا : فأما أجر العافي المتصدق فعلى الله . ذكر من قال ذلك : 9440 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا يحيى بن آدم , عن سفيان , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : كفارة للجارح , وأجر الذي أصيب على الله . 9441 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا يونس , عن أبي إسحاق , قال : سمعت مجاهدا يقول لأبي إسحاق : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يا أبا إسحاق ؟ قال أبو إسحاق : للمتصدق . فقال مجاهد : للمذنب الجارح . * - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : قال مغيرة , قال مجاهد : . للجارح . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير , عن مغيرة , عن مجاهد , مثله . 9442 - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع , قالا : ثنا جرير , عن منصور , عن إبراهيم ومجاهد : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قالا : الذي تصدق عليه , وأجر الذي أصيب على الله . قال هناد في حديثه , قالا : كفارة للذي تصدق به عليه . * - حدثنا هناد , قال : ثنا عبد بن حميد , عن منصور , عن مجاهد بنحوه . 9443 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا محمد بن بشر , عن زكريا , عن عامر , قال : . كفارة لمن تصدق به عليه . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن منصور , عن مجاهد وإبراهيم , قالا : كفارة للجارح , وأجر الذي أصيب على الله . 9444 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : إن عفا عنه أو اقتص منه , أو قبل منه الدية , فهو كفارة له . 9445 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , قال : كفارة للجارح وأجر للعافي , لقوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } . 9446 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : كفارة للمتصدق عليه . * - حدثني المثنى , قال : ثنا معلى بن أسد , قال : ثنا خالد , قال : ثنا حصين , عن ابن عباس : { فمن تصدق به فهو كفارة لا } قال : هي كفارة للجارح . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سفيان , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : فالكفارة للجارح , وأجر المتصدق على الله . * - حدثنا المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن عبد الله بن كثير , عن مجاهد , أنه كان يقول : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يقول : للقاتل , وأجر للعافي . 9447 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق قال : ثنا عمران بن ظبيان , عن عدي بن ثابت , قال : هتم رجل على عهد معاوية , فأعطي دية فلم يقبل , ثم أعطي ديتين فلم يقبل , ثم أعطي ثلاثا فلم يقبل . فحدث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله , قال : " فمن تصدق بدم فما دونه , كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد " . قال : فتصدق الرجل . 9448 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } يقول : من جرح فتصدق بالذي جرح به على الجارح , فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ولا جرح عليه ; من أجل أنه تصدق عليه الذي جرح , فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم . وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عني به : فمن تصدق به فهو كفارة له المجروح , فلأن تكون الهاء في قوله " له " عائدة على من أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى , إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات غير هذه , فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات . فإن ظن ظان أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتص , منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما , لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ البيعة على أصحابه : " أن لا تقتلوا ولا تزنوا ولا تسرقوا " ثم قال : " فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه حده , فهو كفارته " . فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه أو ولي المقتول عنه , نظيره في أن ذلك له كفارة , فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك , لوجب أن يكون عفو المقذوف عن قاذفه بالزنا وتركه أخذه بالواجب له من الحد , وقد قذفه قاذفه وهو عفيف مسلم محصن , كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ومعصيته التي أتاها , وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفه بالواجب له من الحد كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه , كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه . فإن قال قائل : أوليس للمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص ؟ قيل له : بلى . فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها , أكانت له قبله في الآخرة تبعة ؟ قيل له : هذا كلام عندنا محال , وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ . فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم . وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ , مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صح لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفو له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله ; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتل المؤمن بما أوعده به , إن لم يتب من ذنبه , والدية مأخوذة منه , أحب أم سخط , والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار . فإن ظن ظان أن ذلك وإن كان كذلك , فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفارة ; فإنا إنما جعلنا القصاص له كفارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحق منها تنصلا من ذنبه , بخبر النبي صلى الله عليه وسلم . فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يقض عليه بحد ذنبه , فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : " فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته " . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك , الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " فمن تصدق بدم " , و ما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل . وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح , أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير , الذي : 9449 - حدثني به الحارث بن محمد , قال : ثنا ابن سلام , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج , قال : أخبرني عبد الله بن كثير , عن مجاهد , قال : إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب , قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة بن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون , فقال له : يا هذا أنا عروة بن الزبير , فإن كان بعينك بأس فأنا بها . وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله , فلا تبعة له حينئذ قبل المصيب في الدنيا ولا في الآخرة ; لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه , فإبراؤه منه كفارة له من حقه الذي كان له أخذه به , فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الآخرة , ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه ; لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحق به العقوبة من ربه ; لأن الله عز وجل قد وضع الجناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم , فقال في كتابه : { لا جناح عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } . وقد يراد في هذا الموضع بالدم : العفو عنه .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوراة من قود النفس القاتلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوءة ظلما قصاصا ممن أمره الله به بذلك في كتابه , ولكن أقاد من بعض ولم يقد من بعض , أو قتل في بعض اثنين بواحد , وإن من يفعل ذلك من الظالمين , يعني ممن جار على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } يقول تعالى ذكره : وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد , وعندهم التوراة فيها حكم الله . ويعني بقوله : { كتبنا } فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حق بالنفس , يعني : أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة . { والعين بالعين } يقول : وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة , ويجدع الأنف بالأنف , ويقطع الأذن بالأذن , ويقلع السن بالسن , ويقتص من الجارح غيره ظلما للمجروح . وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود , وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته وإدباره عنه بعد إقباله , وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل ; يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين , وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قود , ومن فقأ عينا بغير حق فعينه بها مفقوءة قصاصا , ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع , ومن قلع سنا فسنه بها مقلوعة , ومن جرح غيره جرحا فهو مقتص منه مثل الجرح الذي جرحه , ثم هم مع الحكم الذي عنده في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به ; يقول : فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 9424 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : لما رأت قريظة النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم , نهضت قريظة , فقالوا : يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير ! وكان بينهم دم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم , وكانت النضير يتعززون على بني قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير , وكانت الدية من وسوق التمر أربعين ومائة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة . فقال : " دم القرظي وفاء من دم النضيري " . فغضب بنو النضير , وقالوا : لا نطيعك في الرجم , ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها ! فنزلت : { أفحكم الجاهلية يبغون } , ونزل : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية . 9425 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } قال : فما بالهم يخالفون , يقتلون النفسين بالنفس , ويفقئون العينين بالعين ؟ . 9426 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا خلاد الكوفي , قال : ثنا الثوري , عن السدي , عن أبي مالك , قال : كان بين حيين من الأنصار قتال , فكان بينهم قتلى , وكان لأحد الحيين على الآخر طول . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم , فجعل يجعل الحر بالحر , والعبد بالعبد , والمرأة بالمرأة ; فنزلت : { الحر بالحر والعبد بالعبد } . قال سفيان : وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها : { النفس بالنفس } . 9427 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فيها في التوراة , { والعين بالعين } حتى : { والجروح قصاص } قال مجاهد عن ابن عباس , قال : كان على بني إسرائيل القصاص في القتلى , ليس بينهم دية في نفس ولا جرح . قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : { وكتبنا عليهم فيها } في التوراة , فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فجعل عليهم الدية في النفس والجراح , وذلك تخفيف من ربكم ورحمة , فمن تصدق به فهو كفارة له . 9428 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } قال : إن بني إسرائيل لم يجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت , أو جرح , أو سن , أو عين , أو أنف , إنما هو القصاص أو العفو . 9429 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { وكتبنا عليهم فيها } أي في التوراة , { أن النفس بالنفس } . 9430 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { وكتبنا عليهم فيها } أي في التوراة , { أن النفس بالنفس } . 9431 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } حتى بلغ : { والجروح قصاص } بعضها ببعض . * - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله : { أن النفس بالنفس } قال : يقول : تقتل النفس بالنفس , وتفقأ العين بالعين , ويقطع الأنف بالأنف , وتنزع السن بالسن , وتقتص الجراح بالجراح . فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم إذا كان في النفس وما دون النفس ; ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس .
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ
القول في تأويل قوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } اختلف أهل التأويل في المعني به : { فمن تصدق به فهو كفارة له } فقال بعضهم : عني بذلك المجروح وولي القتيل . ذكر من قال ذلك : 9432 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن الهيثم بن الأسود , عن عبد الله بن عمرو : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : يهدم عنه - يعني المجروح - مثل ذلك من ذنوبه . * - حدثنا سفيان , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن الهيثم بن الأسود , عن عبد الله بن عمرو بنحوه . * - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن الهيثم بن الأسود أبي العريان , قال : رأيت معاوية قاعدا على السرير وإلى جنبه رجل آخر كأنه مولى , وهو عبد الله بن عمرو , فقال في هذه الآية : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : يهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدق به . 9433 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا مغيرة , عن إبراهيم في قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح . 9434 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث , قال : ثنا شعبة , عن عمارة بن أبي حفصة , عن أبي عقبة , عن جابر بن زيد : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح . * - حدثنا ابن المثنى , قال : ثني حرمي بن عمارة , قال : ثنا شعبة , قال : أخبرني عمارة , عن رجل - قال حرمي : نسيت اسمه - عن جابر بن زيد بمثله . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير , عن مغيرة , عن حماد , عن إبراهيم : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح . 9435 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة , قال : ثنا ابن فضيل , عن يونس بن أبي إسحاق , عن أبي السفر , قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار , فاندقت ثنيته , فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل , قال معاوية : شأنك وصاحبك ! قال : وأبو الدرداء عند معاوية , فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " . فقال له الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعته أذناي ووعاه قلبي . فخلى سبيل القرشي , فقال معاوية : مروا له بمال . 9436 - حدثنا محمود بن خداش , قال : ثنا هشيم بن بشير , قال : أخبرنا مغيرة , عن الشعبي , قال : قال ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من جرح في جسده جراحة فتصدق بها , كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به " . 9437 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا يزيد بن هارون , عن سفيان بن حسين , عن الحسن في قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : كفارة للمجروح . 9438 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن زكريا , قال : سمعت عامرا يقول : . كفارة لمن تصدق به . 9439 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يقول : لولي القتيل الذي عفا . * - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني شبيب بن سعيد , عن شعبة بن الحجاج , عن قيس بن مسلم , عن الهيثم أبي العريان , قال : كنت بالشام , وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى , قال : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : فمن تصدق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه . فإذا هو عبد الله بن عمرو . وقال آخرون : عنى بذلك الجارح , وقالوا معنى الآية : فمن تصدق بما وجب له من قود أو قصاص على من وجب ذلك له عليه , فعفا عنه , فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم , كما القصاص منه كفارة له ; قالوا : فأما أجر العافي المتصدق فعلى الله . ذكر من قال ذلك : 9440 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا يحيى بن آدم , عن سفيان , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : كفارة للجارح , وأجر الذي أصيب على الله . 9441 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا يونس , عن أبي إسحاق , قال : سمعت مجاهدا يقول لأبي إسحاق : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يا أبا إسحاق ؟ قال أبو إسحاق : للمتصدق . فقال مجاهد : للمذنب الجارح . * - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : قال مغيرة , قال مجاهد : . للجارح . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا جرير , عن مغيرة , عن مجاهد , مثله . 9442 - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع , قالا : ثنا جرير , عن منصور , عن إبراهيم ومجاهد : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قالا : الذي تصدق عليه , وأجر الذي أصيب على الله . قال هناد في حديثه , قالا : كفارة للذي تصدق به عليه . * - حدثنا هناد , قال : ثنا عبد بن حميد , عن منصور , عن مجاهد بنحوه . 9443 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا محمد بن بشر , عن زكريا , عن عامر , قال : . كفارة لمن تصدق به عليه . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن منصور , عن مجاهد وإبراهيم , قالا : كفارة للجارح , وأجر الذي أصيب على الله . 9444 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : إن عفا عنه أو اقتص منه , أو قبل منه الدية , فهو كفارة له . 9445 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , قال : كفارة للجارح وأجر للعافي , لقوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } . 9446 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : كفارة للمتصدق عليه . * - حدثني المثنى , قال : ثنا معلى بن أسد , قال : ثنا خالد , قال : ثنا حصين , عن ابن عباس : { فمن تصدق به فهو كفارة لا } قال : هي كفارة للجارح . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سفيان , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : فالكفارة للجارح , وأجر المتصدق على الله . * - حدثنا المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن عبد الله بن كثير , عن مجاهد , أنه كان يقول : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يقول : للقاتل , وأجر للعافي . 9447 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق قال : ثنا عمران بن ظبيان , عن عدي بن ثابت , قال : هتم رجل على عهد معاوية , فأعطي دية فلم يقبل , ثم أعطي ديتين فلم يقبل , ثم أعطي ثلاثا فلم يقبل . فحدث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله , قال : " فمن تصدق بدم فما دونه , كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد " . قال : فتصدق الرجل . 9448 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } يقول : من جرح فتصدق بالذي جرح به على الجارح , فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ولا جرح عليه ; من أجل أنه تصدق عليه الذي جرح , فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم . وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عني به : فمن تصدق به فهو كفارة له المجروح , فلأن تكون الهاء في قوله " له " عائدة على من أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى , إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات غير هذه , فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات . فإن ظن ظان أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتص , منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما , لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ البيعة على أصحابه : " أن لا تقتلوا ولا تزنوا ولا تسرقوا " ثم قال : " فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه حده , فهو كفارته " . فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه أو ولي المقتول عنه , نظيره في أن ذلك له كفارة , فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك , لوجب أن يكون عفو المقذوف عن قاذفه بالزنا وتركه أخذه بالواجب له من الحد , وقد قذفه قاذفه وهو عفيف مسلم محصن , كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ومعصيته التي أتاها , وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفه بالواجب له من الحد كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه , كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه . فإن قال قائل : أوليس للمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص ؟ قيل له : بلى . فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها , أكانت له قبله في الآخرة تبعة ؟ قيل له : هذا كلام عندنا محال , وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ . فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم . وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ , مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صح لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفو له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله ; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتل المؤمن بما أوعده به , إن لم يتب من ذنبه , والدية مأخوذة منه , أحب أم سخط , والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار . فإن ظن ظان أن ذلك وإن كان كذلك , فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفارة ; فإنا إنما جعلنا القصاص له كفارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحق منها تنصلا من ذنبه , بخبر النبي صلى الله عليه وسلم . فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يقض عليه بحد ذنبه , فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : " فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته " . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك , الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " فمن تصدق بدم " , و ما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل . وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح , أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير , الذي : 9449 - حدثني به الحارث بن محمد , قال : ثنا ابن سلام , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج , قال : أخبرني عبد الله بن كثير , عن مجاهد , قال : إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب , قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة بن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون , فقال له : يا هذا أنا عروة بن الزبير , فإن كان بعينك بأس فأنا بها . وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله , فلا تبعة له حينئذ قبل المصيب في الدنيا ولا في الآخرة ; لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه , فإبراؤه منه كفارة له من حقه الذي كان له أخذه به , فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الآخرة , ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه ; لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحق به العقوبة من ربه ; لأن الله عز وجل قد وضع الجناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم , فقال في كتابه : { لا جناح عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } . وقد يراد في هذا الموضع بالدم : العفو عنه .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوراة من قود النفس القاتلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوءة ظلما قصاصا ممن أمره الله به بذلك في كتابه , ولكن أقاد من بعض ولم يقد من بعض , أو قتل في بعض اثنين بواحد , وإن من يفعل ذلك من الظالمين , يعني ممن جار على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .