أميــــر الحـــــرف
أقبية الغياب ..

حب تحت المطر ... (الجزء الأول)
حبات المطر الناعمة مازالت تهطل وتكسو شوارع المدينة بثوبها اللامع
والصباح المنعش بنسائمه الباردة
يعانق النوافذ والشرفات البيضاء الممتلئة بــ الياسمين البّري والأغصان الأرجوانية
تلك النسائم المعطرة بعبق الورد وهي تمتزج برائحة المطر
كانت ترافقها وهي تقترب من المقهى ذو الطابع الفرنسي حيث لوحات فويار وجان أونريه تزين الجدران الداخلية
والطاولات الأنيقة بطابعها الفيكتوري الفخم والشيدات المضاءة بلون الشمس والكثير من زهريات الورد الأنيقة
كل ذلك لم يكن كافياً ليخرجها من ذلك الحزن الذي يغمر دواخلها
ملامحها المغلفة بالخيبة كانت تحيط تدوير وجهها رغم تلك الابتسامة المصطنعة التي رسمتها ما إن دلفت لداخل المقهى
وبرغم هيئتها الهادئة إلا إن
الكثير من الحزن كان يشعّ من وجهها الصبوح كــ تلك الهالة الفضية التي تحيط تدوير القمر
ومع تلك الهموم تفاجأت بامتلاء المقهى كانت الطاولات مشغولة بالكامل
تفحصت كل أركان المقهى بحثاً عن طاولة شاغرة لكنها سرعان ما انشغلت بوجوه الحاضرين
نظرات الحب المتبادلة
الحوارات الهادئة
الهمسات التي تصاحبها ابتسامة والتماعة عين
الأغنية الرومانسية التي تناغم عناق هنا وتشابك أصابع هناك مع كل مقطع يحرك المشاعر لذروتها
وكأنه يوم للحب ..
اعتصرت قلبها تلك المشاهد وداهمتها نوبة الشعور بالوحدة
لم يكن أحد من الحاضرين قد انتبه لوقوفها سواه
كان يجلس وحيداً أيضاً يرمقها بين الحين والآخر بنظرات متطفلة من خلف الصحيفة التي بين يديه
ومع كل رشفة من قهوته كان يحاول أن يتفحصها أكثر
ودّ لو أنه يفكك أسرار تلك الحيرة التي تتوسط عينيها الجميلتين ..
النادل يقطع حيرتها
- صباحك خير سيدتي .. كيف أخدمكِ ؟
- أهلاً بك .. لدي موعد وأبحث عن طاولة
- سيدتي يؤسفني أننا في وقت الذروة والطاولات تعجّ بالزبائن بهذا الوقت
ولن تحصلي على واحدة قبل نصف ساعة من الآن تعرفين هذه الأوقات و ....
قاطعته قبل أن يسترسل
- لكنني ضربت موعداً في هذا المكان وليس لدي متسع من الوقت قبل وصول صديقتي
حاول أن تعالج الموقف لو سمحت
ابتسم النادل وهو يحرك رأسه بالنفي
- آسف سيدتي ليس هناك مكان في هذا الوقت يجدر بكِ الانتظار أو الذهاب لمقهى آخر
ختم عبارته بابتسامة ترحيب وأكمل طريقه نحو زاوية المقهى
تشعبت ملامح الحيرة بعينيها وهي تفرك بيديها وتتلفت بكل أرجاء المكان لعلها تجد أثنين على وشك المغادرة
ثم اتجهت نحو النافذة الزجاجية التي تغطيها ذرات المطر وبعض الضباب الذي حجب الرؤية جزئياً عن الشارع
أخرجت هاتفها واتصلت
جاء الرد سريعاً من صديقتها
- صباح الخير آسفة حبيبتي أعلم بأني قد تأخرت على الموعد كالعادة لا تهدري الوقت باللوم أغلقي الهاتف
سأصلك في غضون عشر دقائق
- لا لا تهتمي خذي وقتك بالكامل فالطاولات أيضاً مشغولة وما زلت أبحث عن واحدة
- آهااا طيب لا تشغلي بالك بهذا الأمر كثيراً فربما لدينا طاولة محجوزة فهناك من ينتظرني غيرك أيضاً
ذلك الشاب الذي حدثتك عنه لابد إنه قد سبقني للمكان وقام بحجز طاولة
- ماذا !؟ كيف تضربين موعداً معه دون أن تخبريني كيف سنتحدث بوجوده
لدي أمر هام وددت اخبارك به أنا متعبة جداً ولست في مزاج مناسب للمجاملة
كل ما أردته أن أخبرك بما حدث لي , لدي الكثير مما أريد البوح به لك وحدك
- ماذا ما بك ..؟ نبرة صوتك هذه تقلقني جداً تتحدثين وكأنك محطمة
- بل أنا أسوء مما تظنين
- ماذا ؟؟؟ أخبريني ما بك لا يسعني الانتظار حتى أصل و..
- قاطعتها بنبرة يأس لقد رحل والى الأبد لقد انتهى ما بيننا وكأنه كان يتمنى حدوث ذلك
- ماذا هل فعلها حقاً..؟
ألم أحذرك دوماً من عدم التورط في الحب وادمان شخص ما
لأنهم ياغبية هكذا دوماً يرحلون بلا رأفة ودون سبب حتى
سوى أنه قد أصابهم الملل أو أنهم وجدوا البديل
- هذا صحيح أنتِ تحذريني دوماً ومع ذلك تخبريني أن لديك موعد حب
في نفس المقهى الذي يشهد حطام قلبي
- موعد حب ؟؟ أمجنونة انتِ
أي موعد هذا ؟
أنها صداقة عابرة فحسب لست ممن تسلّم قلبها لأحد ثم تضرب قلبها خيبة كبيرة لاحقاً
حبيبتي هذا هو الحال الآن , نلتقي ونتسكع لبعض الوقت ثم نمضي كلّ بطريقه
الفكرة تتلخص بقضاء الوقت فقط
الكلمات والمشاعر التي نذرفها جميعا زائفة
بضع دعوات وهدايا ثم أركله بعيداً إنها مجرد لعبة نلهو بها فهذا يضمن الفوز دوماً
أما الحب فنهايته الخسارة
- كيف تقولين هذا الكلام كيف أمكنك أن تفكري بهذه الطريقة العبثية المتأرجحة
أين قلبكِ من كل ذلك ..؟
وما ذنب هذا الشاب ماذا لو كان صادقاً بمشاعره ماذا لو كنتِ حلمه الأخير
كما أنك واهمة فاللعبة قد تنتهي بالخسارة أيضاً
- أتقولين ما ذنبه ؟؟ حسناً أخبريني إذاً وما ذنبك أنتِ ..؟
بقيت شاردة وعيناها تتجهان صوب زجاج النافذة
اغلقت الهاتف وراحت تجول ببصرها في وجوه الجالسين بحثاً عنه
جزء منها كان يريد أن يمنع تلك الكارثة فهي لا تريد أن يعاني قلباً آخر
ذات الهزيمة والشتات الذي تعيشه الآن
لم تستطع أن تخمن من هو من بين الحاضرين فهناك العديد من الطاولات التي يشغلها شخص واحد
وتبدو عليه ملامح انتظار أحدهم
تحركت نحو لوحة كبيرة تزين الجدار الرئيسي علّها تستهلك الوقت ريثما تصل صديقتها
كانت اللوحة ترصد مشهداً لفتاة تحمل بيدها اليمنى مظلة في شارع ممطر
وفي يدها الأخرى تمسك قلبا متصدّع
شعرت وكأن تلك اللوحة تتحدث عنها , لحظتها كانت تقاوم رغبة ملحّة بالبكاء
لكنها أحست أن أحدهم يقف خلفها مباشرة .. تعمدت أن لا تلتفت
قبل أن يبادرها ..
- صباح الخير
برهة من التردد والصمت أرادت أن تعيد ترتيب تلك الفوضى التي أطفأت وهج روحها لكنها ردت أخيراً
- أهلاً صباح الخير تفضل
- عذراً لتطفلي آنستي لكنني أراكِ تقفين حائرة بحثاً عن طاولة في هذا المقهى
وتباريح الحزن تلتهم ملامح وجهك بشكل ملفت
- أمممم نعم بالفعل انا حائرة ولكن هل أنت مدير المقهى أو ما شابه ؟
تلعثم قليلاً
- كلا أبداً أنا أحد الزبائن فحسب وأجلس على تلك الطاولة في الزاوية الشرقية للمقهى
وأحببت أن أدعوكِ لمشاطرتي تلك الطاولة لحين حصولك على أخرى
تغيرت ملامحها قليلاً كمن تستعد للحرب لكنها تداركت نفسها وردت
- حسناً أنا آسفة فانا لا أجالس الغرباء ..!
شكراً لك سأنتظر فما زلت أمتلك بعض الوقت للانتظار
في سرها لقد انتبه لحزني ألهذا الحد تصدعت روحي .؟
لكنها استعادت نفسها يا إلهي هذا ما كان ينقصني
أن يتطفل عليّ مختل وسيم ليدعوني لطاولته
- بادرها مقاطعا هواجسها إذاً طالما ترفضين دعوتي لدي اقتراح آخر
دعينا نتبادل الأماكن خذي أنتِ الطاولة وسأنهي قهوتي قرب هذه اللوحة التي تسمى ( إثم الفراق )
رفعت حاجبيها باستغراب واستدارت نحو اللوحة مجدداً وكأنها تريد أن تمعن في تفاصيلها أكثر
بعد أن تعرفت للتو على عنوانها من هذا المتطفل الغريب
- إذاً أنت تعرف هذه اللوحة ..؟
لم تسمع رداً
استدارت نحوه كان قد غادر نحو طاولته
لملم بضعة أوراق ووضعها داخل الصحيفة وارتشف آخر ما تبقى من قهوته وعاد متجهاً نحوها
في سرها كم كنت سأبدو سخيفة لو أنه سمع تساؤلي الأحمق عن اللوحة
كان سيظن انني أتعمد التشعب بحوار معه
لكنه وصل قربها وفي عينيه ابتسامة جميلة
- تفضلي آنستي بإمكانك الجلوس على الطاولة وأنا سأحاول الحصول على طاولة أخرى
لا يصح أن تقف فتاة جميلة مثلك لوقت طويل فيما اقف متفرجاً منشغلاً
بقراءة الهراء الذي يملأ الصحف
تجمدت بمكانها وهي تسمع عباراته المثيرة هذه شعرت أنها محاولة واضحة منه للتقرب اليها
تحركت نحو الطاولة بسرعة دون كلمة امتنان منها لكنها اصطدمت به واسقطت أوراقه على الأرض
- آهااا أنا آسفة حقاً لم أقصد ذلك أبداً
انحنى على الأرض ليلتقط تلك الأوراق وهو يردد لا عليكِ لا تهتمي أبداً لكنها تسمّرت بمكانها
وهي تشاهد من بين تلك الأوراق قد ظهر جانباً من بورتريه مرسوم بأقلام الفحم يجسد صورة صديقتها
حاولت تدارك الأمر
- يا الهي كم أشعر بالأسف لما حدث حقاً أعتذر منك جداً
رددت تلك الكلمات وهي تراقبه يلتقط ما تبعثر من أوراقه لكنها سرحت بخيالها أي صدفة هذه
لقد كنت وقحة جداً مع الشخص الخطأ لطالما أخبرتني عنه تلك الحمقاء بأنه مهذب
لكنه قطعاً أفضل من وصفها البدائي جداً
إنه الضحية القادمة لتلك اللعينة ربما سأقتلها ذات يوم لو قامت بتحطيم قلبه
يا إلهي أشعر أنه لا يستحق ما ينتظره لقد تعامل معي بلطف كبير
يبدو عليه الرقي والحداثة لابد انه رسام وهذا يعني أنه مثقف وشاعري ومهذب أيضاً وممكن أن يكون ..
نهض بعد أن التقط كل ما سقط على الأرض وقاطع خيالاتها الطارئة
- حسناً لقد انتهيت لا تكترثي آنستي اذهبي لطاولتك قبل أن يختطفها أحدهم
ورسم على وجهه ذات الابتسامة اللطيفة
- على أي حال شكراً لك ممتنة جداً لموقفك النبيل هذا وبودي اليوم أن أتخطى أحدى قواعدي
وأسمح لنفسي بالجلوس معك دعنا نتشارك الطاولة
على الأقل لأكفر عن ذنبي ببعثرة أوراقك وأطلقت ضحكة رقيقة
تفضل فقد طال وقوفنا
- عادت ابتسامته وزاد خجله وهو يردد نعم بكل سرور آنستي تفضلي
وحين وصلا قرب الطاولة بادرته بسؤال
- هل أنت رسام شهير ..؟
لم يرد عليها لكنه سحب الكرسي الخاص بها قائلا تفضلي بالجلوس آنستي
لحظتها شعرت بأن غيمة أمطرت للتو في مكان ما من روحها
أنستها ذلك الحزن الذي يخامر قلبها طيلة الوقت
ما هذا مَ الذي يحدث لي ؟ مَ الذي أفعله بنفسي
مجدداً يقاطع ذلك الحوار الذي يتردد بداخلها
- لا لستُ شهيراً أنا مجرد رسام مبتدئ لا أكثر
وربما هذا ما دفعني للتطفل عليكِ , فقد تولدت لدي رغبة برسمك ..
هناك الكثير من الغرابة والسحر بين عينيك
انه مزيج من حلم منطفئ وأمنيات عفوية وخيبة ما زالت تحكم قبضتها وتتصارع مع كبرياءك بضراوة
وتفاصيل أخرى تمنيت لو أجسدها على الورق
- حقاً ؟ قد رأيت كل هذا بوجهي بــ نظرة واحدة ..؟
داهمته تلك الابتسامة مجدداً لكنها هذه المرة مغلفة بملامح الحيرة ..
- لا في الحقيقة لدي إعتراف صغير
لقد كنت أسترق النظر اليكِ طيلة الوقت لا أدري كنت أجد صعوبة في منع نفسي من مراقبتك
يمكنك أن تسمّيه نوع من الشغف الذي يصيب الانسان فجأة تجاه الأشياء الساحرة
أعادتها عبارته الشاعرية هذه الى الرسالة الأخيرة التي تلقتها بالأمس
( لم أعد أشعر بالشغف نحوك كأن ما بيننا قد تلاشى للأبد )
أطلقت تنهيدة كانت عالقة بــ أعماقها لكنها أرادته أن لا ينتبه
فــ بادرت النادل بطلب قهوتين وهنا توقفت لتساله
- هل تفضل قهوتك ببعض السكّر ؟
- آنستي أيعقل أن أطلبها بسكّر وأنتِ في الطرف الآخر من الطاولة
هبط قلبها وهي ترتطم بعبارته التي مرت كالعطر على روحها بعد ذبولها فتوهجت فجأة
أما هو فقد كان ولأول مرة في حياته يشاهد عن قرب
مراحل اكتمال القمر ..
يتبع
بقلمي
أمير الحرف
إن راقت لكم سأكملها حتماً
محبتي