- إنضم
- 26 يونيو 2023
- المشاركات
- 118,772
- مستوى التفاعل
- 119,677
- النقاط
- 2,508


كان يلهو بحزنه كما يلهو الصبي الصغير في أزقة ضيقة تحيط بالحقول، يتوارى خلف جدران الأمل كما يتوارى خلف جذوع الأشجار، يطارد ظلاله بين زوايا قلبه الضيقة، كما لو أن الحزن لم يكن سوى لعبة صيفية عابرة، لا أكثر. قواعد هذه اللعبة، كما هي الحال في ألعاب الأولاد، كانت في غاية البساطة: الحزن يختبئ، وهو يركض باحثًا عنه، يضحك إذا وجده، وينساه إذا أخطأ الطريق.
ولكن، كما في كل لعبة، قد يحدث خلل. وهكذا، وفي لحظة ضعف غامضة، نَسِي الحزن قواعد اللعبة. نَسِي أن يختبئ بعيدًا خلف الأكواخ أو في عمق الأفق. بدلاً من ذلك، اختار وجهه ملاذًا، اندمج في ملامحه كما يندمج الليل بين أغصان شجرة بلوط كبيرة. هناك، في عمق عينيه، حيث يبدو أن الزمن قد تجمد، استقر الحزن، يسكب ببطء مرارة الأيام كما يسكب الفلاح الماء في حقله القاحل.
تطلع إلى وجهه كما ينظر العائد من رحلة طويلة إلى قريته، باحثًا عن علامات مألوفة، وحاول أن يرتسم على شفتيه ابتسامة. كانت تلك الابتسامة هشة، كخيط خفيف من الضوء، لكنها سرعان ما انهارت تحت وطأة ضحكة خافتة، ضحكة لا تحمل سوى ثقل الحزن العتيق، ثقله الذي لا يُحتمل.
حين أدرك أن اللعبة قد انقلبت رأسًا على عقب، شعر بأن قلبه، ذلك القلب الذي لطالما كان ساحة معاركه، قد تحول إلى قفص. لم يعد هو الصياد، بل صار هو الطريدة. الحزن، كما يبدو، قد غدر به، وصار وجهه مرآة لا تُمحى، تعكس كل مأساة دفنها في أعماقه.
توقف عن اللعب. جلس ساكنًا، كما تجلس شجرة صامدة أمام عاصفة خريفية، يراقب وجهه. لا قتال، لا مقاومة. الحقيقة كانت جلية: الحزن، أحيانًا، لا يختبئ. بل يختار أن يكون جزءًا منك، أن يكون الحصان الذي تمتطيه، وليس العدو الذي تفر منه.
مرت دقائق طويلة، كدهور، وهو غارق في صمت يثقل كالصخور، يُلاعب أفكاره كما يلعب الصبي بأوراق الشجر المتساقطة. حاول أن يُخمد شمعة الحزن في قلبه، كما يُطفئ الرجل مصباحه مع نهاية النهار، لكنه أدرك أخيرًا أن الحزن لم يأتِ ليُخبأ، بل ليُعلمه دروسًا لم يعرف كيف يسمعها من قبل.
استمع لصمت وجهه، لصدى الحزن الذي همس له بأسرار عميقة لم يُسمعها قط. فتحدث إليه، بصوت هادئ كما يُحدث الفلاح عشب حقله: "إذا كنت هنا، فلماذا لا تخرج؟ أخبرني عن ظلامك، ربما أستطيع أن أضيء دربك."
ابتسم الحزن برقة، تلك الابتسامة الحادة التي تشبه النصل المنساب بين الظلال، وكأنما يقول: "أنا هنا لأنك دعوتني. لا مهرب. لكنني سأرافقك، ليس كعبء، بل كرفيق درب."
قبل الفكرة ببطء، كمن يضع قطعة قماش رقيقة على جرح غائر. تعلم كيف يعيش مع حزنه، كيف يشاركه أيامه ولياليه، كيف يكتب له قصصًا في ليالي السُهاد.
وهكذا، أصبح الحزن جزءًا منه. ليس كعدو يُقاتل، بل كظل صامت يرافقه، يذكّره أن الحياة، رغم قسوتها، تحمل في طياتها دروسًا لا تُقدّر بثمن.
ومع مرور الأيام، اكتشف في حزنه زوايا لم يرها من قبل. لم يكن وحشًا يلتهم الروح، بل كان نهرًا هادئًا يحمل قوة خفية، يعلم الصبر، ويزرع في القلب بذور الفهم.
وفي كل صباح، حين يفتح عينيه، يرى الحزن جاثمًا بهدوء على حافة وجهه. لكنه لم يعد يهرب. جلس معه، يحتسي قهوته، يتبادل معه كلمات صامتة، كما يفعل الرجل العجوز مع رفيقه القديم.
أحيانًا، يهمس له الحزن عن لحظات انكساره، عن الأيام التي شعر فيها بلا مأوى. وفي تلك اللحظات، لم يستمع بنفور، بل بقبول هادئ، لأن الحياة، كما تعلم، لا تُفهم إلا حين تعيش الألم، وتحتضن الحزن، وتسمح له بأن يكون معلمك، مرشدك، ورفيق دربك.
وهكذا عاش، ليس بلا حزن، بل بسلام داخلي عميق، يدرك أن الحياة، بكل مرارتها، لا تكتمل إلا بوجود الحزن كرفيق لا يُفارق.