- إنضم
- 26 يونيو 2023
- المشاركات
- 118,772
- مستوى التفاعل
- 119,679
- النقاط
- 2,508
لا وقتَ في المخيم...
الساعةُ مسمارٌ صدئ في حائط الشمس،
والريح تمضغ الأزقة كما تمضغ الأرملة حبة الزيتون اليابسة،
والنهار… نهارٌ بلا عقارب، يمشي على عكاز الضوء.
لم تكن "أم يوسف" تجلس،
كانت تترك جسدها فوق الكرسي وتختبئ في ثنيّة قميصه،
في طيّةِ كمّه الذي لم تُكمل كيّه ذات مساء.
تنظر...
لا إلى القميص، بل إلى ما خلف القميص:
احتمالات العودة،
واحتمال أن يكون كل هذا الانتظار، صلاةً سرّية لا يسمعها أحد.
كانت ترى يوسف في الفراغ،
كظلّ لم يكتمل،
كوميضٍ تائه في عين غيمٍ لا يمطر.
يوسف، يوسف... يوسف.
الاسم يتموّج في رأسها،
يوسف كان
— "كان ماذا؟"
كان ورقةً كتب عليها الليل شيئًا من الحنين،
كان يشبه خبز التنور: يحترق إن لم يُراقب،
وكان يكتب،
يكتب لأنه إن لم يكتب، سيموت.
(أكان يعلم؟)
هل كان يعلم أن الكلمات لا توقف الرصاص،
لكنها تترك دمًا على الورق؟
خرج ذات ليلٍ،
وقميصه الأبيض يلتفّ عليه كنيّةٍ مؤجلة،
كأنّه كان يصعد لا يمشي،
وعيناه؟
كانتا تكتبان رسائل لا تصل،
رسائل شفّافة، لا تقرؤها إلا الأمهات.
اختفى في الظلّ،
كمن دخل في قصيدةٍ لا بيت لها.
قالت الجارات: "راح للحدود."
قال الرجال: "استُشهد."
وقالت عجوزٌ بلا أسنان:
"ما مشى برجليه… الحلم هو اللي ساقه
لم تُصدّق أم يوسف أحدًا.
لم تهزّ رأسها، لا نفيًا ولا قبولًا.
كانت تؤمن بشيءٍ لا يُقال:
أن الغائبين الحقيقيين لا يموتون،
بل يذوبون في الغياب كالماء في الطين.
كانت تغسل القميص، كل جمعة،
تعصره برفق كما لو تعتذر له،
وتنشره قرب نافذةٍ ضيقة،
كأنّها تنشر قلبها ليجف.
القميص كان يلوّح، نعم،
لكنّه لم يكن راية،
كان صلاةً،
صلاةً بصيغة مفقودة، لا تُتلى في المساجد.
الجارات كنّ يتهامسن:
— "هَبَل، تقطّعت فيها السُبُل."
— "المخيم ما يصير وطن، والوجع ما ينقلب عودة!"
لكنها لم تتهالك.
كانت، في وحدتها، أكثر اتزانًا من فصائل السياسة.
كانت تفهم أن المخيم ليس مكانًا، بل كذبة جماعية نبيلة.
كذبة نخبزها كل صباح،
نعلّقها فوق رؤوس الأطفال،
نربطها في رقبة الصبيان كمفاتيح بلا أبواب.
كلّنا كذبنا،
إلا هي…
اختارت أن تصدّق الغياب دون أن تذبح الحلم.
وحدها أم يوسف اختارت ألا تحارب النسيان بالصوت،
بل بالصبر.
مدت الحبل كأنها تمد شريانًا بين الماضي والممكن،
بين جدارين يتقشران مثل ذاكرة رجلٍ خرف،
وعلّقت القميص…
لا لتجففه، بل لتوقظه.
كانت تنتظر اهتزازه،
كأنّ الريح رسول،
وكأنّ الحركة نداء.
في ليلةٍ من خريفٍ متردّد،
حين كانت الريح تمشي مثل عجوزٍ تئن من ركبتيها،
انقطع الحبل،
وسقط القميص كأنّ الأرض نادته باسمٍ قديم.
خرج الجيران فجرًا،
لا لأنهم سمعوا صوتًا،
بل لأن المخيم يُحسّ الأشياء قبل أن تحدث.
وجدوها هناك،
تجلس في الماء،
والمطر على كتفيها يشبه بكاءً مؤدبًا.
كانت تحتضن القميص،
وتهمس بشيءٍ لم يكن بكاءً،
لم يكن صلاة،
كان شيئًا بينهما:
وجعٌ يعرف الله باسمه،
وينادي يوسف كأنه لم يغب قط.
في اليوم التالي،
نهضت باكرًا،
كما لو أن الليل ترك في قلبها وعدًا صغيرًا.
مدت يدها إلى الرف،
تناولت الساعة التي بلا عقارب،
مسحت عنها الغبار،
وغسلتها كما لو كانت تغسل وجه الزمن.
ثم، بشيء من القداسة،
نشرتها بجانب القميص.
كأنها تقيم جنازة سرّية
لزمنٍ لم يكتمل،
ولغائبٍ لم يُعلَن اسمه،
ولحياةٍ… ما زالت تنتظر أن تُغفر.
مررتُ بالمكان بعد سنوات،
وكان ما تبقى من البيت هو أطلالٌ مهشمة،
كانت الجدران تتنفس الذاكرة، لكن الحبل...
كان لا يزال مشدودًا بين جدارين يتساقطان مثل الوعود القديمة.
لا قميص، لا ساعة.
لا شيء سوى الظلال،
ظلالٌ غائبة،
لا تغادر،
ولا تجد مكانًا آخر.
الغائبون لا يغادرون،
يقولون في المخيم: "إنهم يتبخرون،
يتحولون إلى ريح، إلى فكرة لم نكن نعلم أننا حملناها."
لكنني... كنت أراهم في الهواء.
في حنين لا ينام،
في ندم لم يُكتب،
وفي فكرةٍ لا تموت أبدًا.
الساعةُ مسمارٌ صدئ في حائط الشمس،
والريح تمضغ الأزقة كما تمضغ الأرملة حبة الزيتون اليابسة،
والنهار… نهارٌ بلا عقارب، يمشي على عكاز الضوء.
لم تكن "أم يوسف" تجلس،
كانت تترك جسدها فوق الكرسي وتختبئ في ثنيّة قميصه،
في طيّةِ كمّه الذي لم تُكمل كيّه ذات مساء.
تنظر...
لا إلى القميص، بل إلى ما خلف القميص:
احتمالات العودة،
واحتمال أن يكون كل هذا الانتظار، صلاةً سرّية لا يسمعها أحد.
كانت ترى يوسف في الفراغ،
كظلّ لم يكتمل،
كوميضٍ تائه في عين غيمٍ لا يمطر.
يوسف، يوسف... يوسف.
الاسم يتموّج في رأسها،
يوسف كان
— "كان ماذا؟"
كان ورقةً كتب عليها الليل شيئًا من الحنين،
كان يشبه خبز التنور: يحترق إن لم يُراقب،
وكان يكتب،
يكتب لأنه إن لم يكتب، سيموت.
(أكان يعلم؟)
هل كان يعلم أن الكلمات لا توقف الرصاص،
لكنها تترك دمًا على الورق؟
خرج ذات ليلٍ،
وقميصه الأبيض يلتفّ عليه كنيّةٍ مؤجلة،
كأنّه كان يصعد لا يمشي،
وعيناه؟
كانتا تكتبان رسائل لا تصل،
رسائل شفّافة، لا تقرؤها إلا الأمهات.
اختفى في الظلّ،
كمن دخل في قصيدةٍ لا بيت لها.
قالت الجارات: "راح للحدود."
قال الرجال: "استُشهد."
وقالت عجوزٌ بلا أسنان:
"ما مشى برجليه… الحلم هو اللي ساقه
لم تُصدّق أم يوسف أحدًا.
لم تهزّ رأسها، لا نفيًا ولا قبولًا.
كانت تؤمن بشيءٍ لا يُقال:
أن الغائبين الحقيقيين لا يموتون،
بل يذوبون في الغياب كالماء في الطين.
كانت تغسل القميص، كل جمعة،
تعصره برفق كما لو تعتذر له،
وتنشره قرب نافذةٍ ضيقة،
كأنّها تنشر قلبها ليجف.
القميص كان يلوّح، نعم،
لكنّه لم يكن راية،
كان صلاةً،
صلاةً بصيغة مفقودة، لا تُتلى في المساجد.
الجارات كنّ يتهامسن:
— "هَبَل، تقطّعت فيها السُبُل."
— "المخيم ما يصير وطن، والوجع ما ينقلب عودة!"
لكنها لم تتهالك.
كانت، في وحدتها، أكثر اتزانًا من فصائل السياسة.
كانت تفهم أن المخيم ليس مكانًا، بل كذبة جماعية نبيلة.
كذبة نخبزها كل صباح،
نعلّقها فوق رؤوس الأطفال،
نربطها في رقبة الصبيان كمفاتيح بلا أبواب.
كلّنا كذبنا،
إلا هي…
اختارت أن تصدّق الغياب دون أن تذبح الحلم.
وحدها أم يوسف اختارت ألا تحارب النسيان بالصوت،
بل بالصبر.
مدت الحبل كأنها تمد شريانًا بين الماضي والممكن،
بين جدارين يتقشران مثل ذاكرة رجلٍ خرف،
وعلّقت القميص…
لا لتجففه، بل لتوقظه.
كانت تنتظر اهتزازه،
كأنّ الريح رسول،
وكأنّ الحركة نداء.
في ليلةٍ من خريفٍ متردّد،
حين كانت الريح تمشي مثل عجوزٍ تئن من ركبتيها،
انقطع الحبل،
وسقط القميص كأنّ الأرض نادته باسمٍ قديم.
خرج الجيران فجرًا،
لا لأنهم سمعوا صوتًا،
بل لأن المخيم يُحسّ الأشياء قبل أن تحدث.
وجدوها هناك،
تجلس في الماء،
والمطر على كتفيها يشبه بكاءً مؤدبًا.
كانت تحتضن القميص،
وتهمس بشيءٍ لم يكن بكاءً،
لم يكن صلاة،
كان شيئًا بينهما:
وجعٌ يعرف الله باسمه،
وينادي يوسف كأنه لم يغب قط.
في اليوم التالي،
نهضت باكرًا،
كما لو أن الليل ترك في قلبها وعدًا صغيرًا.
مدت يدها إلى الرف،
تناولت الساعة التي بلا عقارب،
مسحت عنها الغبار،
وغسلتها كما لو كانت تغسل وجه الزمن.
ثم، بشيء من القداسة،
نشرتها بجانب القميص.
كأنها تقيم جنازة سرّية
لزمنٍ لم يكتمل،
ولغائبٍ لم يُعلَن اسمه،
ولحياةٍ… ما زالت تنتظر أن تُغفر.
مررتُ بالمكان بعد سنوات،
وكان ما تبقى من البيت هو أطلالٌ مهشمة،
كانت الجدران تتنفس الذاكرة، لكن الحبل...
كان لا يزال مشدودًا بين جدارين يتساقطان مثل الوعود القديمة.
لا قميص، لا ساعة.
لا شيء سوى الظلال،
ظلالٌ غائبة،
لا تغادر،
ولا تجد مكانًا آخر.
الغائبون لا يغادرون،
يقولون في المخيم: "إنهم يتبخرون،
يتحولون إلى ريح، إلى فكرة لم نكن نعلم أننا حملناها."
لكنني... كنت أراهم في الهواء.
في حنين لا ينام،
في ندم لم يُكتب،
وفي فكرةٍ لا تموت أبدًا.
