العـ عقيل ـراقي
اجملُ شيء التجاهل..
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1
علي (عليه السلام) يوم الجمل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على كل حال وصلى الله على محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
انتهى الكلام في الليلة الماضية حول وفاة عثمان، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما.
اجتمعت الصحابة ـ بعد مقتل عثمان ـ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتشاوروا في أمر الإمامة، فأشار بعضهم بعلي (عليه السلام) وهم: عمار بن ياسر وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان وغيرهم، فذكروا سابقة علي (عليه السلام) وفضله جهاده، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيباً يذكر فضل علي، فمنهم من فضله على أهل عصره، ومنهم من فضله على جميع المسلمين عامة، فأتى الناس عليا ليبايعوه، فقال (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان لا تقوم له القلوب.
فقالوا:ننشدك الله: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟
وقال الشعبي: أقبل الناس إلى علي (عليه السلام) ليبايعوه، ومالوا إليه، فمدوا يده فكفها، وبسطوها فقبضها حتى بايعوه.
قال (عليه السلام): لا حاجة لي في أمرتكم، فمن اخترتم رضيت به.
فقالوا: ما نختار غيرك.
وترددوا إليه مراراً، وقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
فقال (عليه السلام): ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا في المسجد ـ وكان في بيته ـ فخرج إلى المسجد، وعليه قميص وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوكئاً علو قوسه، فبايعه الناس، وكان أول من بايعه من الناس: طلحة، ثم الزبير ثم بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين.
ولما أراد طلحة والزبير أن يبايعا قال لهما أمير المؤمنين: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: بل نبايعك.
وجاءوا بسعد بن أبي وقاص فقال له علي: بايع.
قال: لا حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس.
فقال الإمام: خلوا سبيله.
وجاءوا بعبد الله بن عمر فقالوا: بايع.
فقال: لا، حتى يبايع الناس فقال (عليه السلام): ائتني بكفيل.
قال: لا أرى كفيلا.
فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه.
فقال الإمام: دعوه أنا كفيله!.
كان الازدحام على الإمام علي بصورة مدهشة، وكاد الناس أن يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازدحام.
فبويع له بالخلافة يوم الجمعة لثمانية عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة.
ومن ذلك اليوم نهض علي (عليه السلام) بأعباء الخلافة، وأول خطوة تقدم بها الإمام إلى العدالة هو تقسيم بيت مال المسلمين بالسوية وذلك في اليوم الثاني من بيعته، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما قال:
أما بعد، لما قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) استخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شورى بين ستة، فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم، ثم حصر، ثم قتل، ثم جئتموني فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم..إلخ.
ثم التفت يمينا وشمالا فقال: ألا لا يقولن رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!! ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل لأحد على أحد، وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب.
وإذا كان غد ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إذا كان مسلما حرا إلا حضر، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
وعن عمار وابن عباس قالا: إنه (عليه السلام) لما صعد المنبر قال لنا: قوموا فتخللوا الصفوف، ونادوا هل من كاره؟ فتصارخ الناس من كل جانب: اللهم قد رضينا وسلمنا وأطعنا رسولك وابن عمه، فقال (عليه السلام): قم يا عمار إلى بيت المال، فأعط الناس، ثلاثة دنانير لكل إنسان وادفع لي ثلاثة دنانير!! فمضى عمار وأبو الهيثم وجماعة من المسلمين إلى بيت المال، ومضى أمير المؤمنين إلى مسجد قباء يصلي فيه، فوجدوا ثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا الناس مائة ألف فقال عمار: جاء والله الحق من ربكم، والله ما علم بالمال ولا بالناس وإن هذه الآية وجبت عليكم بها طاعة الرجل.
أول شيء كرهه الناس من أمير المؤمنين تقسيمه العطاء بالسوية فقد قال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال (عليه السلام): نعطيه كما نعطيك!! وأمر الإمام أن يبدأوا في العطاء بالمهاجرين ثم يثنون بالأنصار ثم من حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود.
تخلف من هذه القسمة يومئذ طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش، ومن هنا بدأت التفرقة ونشب الخلاف، وتولدت الفتنة.
وأقبل هؤلاء وجلسوا في ناحية من المسجد، ولم يجلسوا عند علي (عليه السلام) ثم قام الوليد بن عقبة فجاء إلى الإمام فقال: يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا: فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوانك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في يوم عثمان وأن تقتل قتلة عثمان، وإنا إن خفناك تركناك والتحقنا بالشام.
فقال (عليه السلام): أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أُسيّركم.
فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم، فافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، لأن عماراً وعبد الله بن رافع وغيرهما لما قسموا المال بين الناس بالسوية أخذ علي (عليه السلام) مكتله ومسحاته ثم انطلق إلى بئر الملك فعمل فيها فأخذ الناس ذلك القسم حتى بلغوا الزبير وطلحة وعبد الله بن عمر فأمسكوا بأيديهم، وامتنعوا عن القبول وقالوا: هذا منكم أو من صاحبكم؟ فقالوا: هذا أمره، ولا نعمل إلا بأمره، قالوا استأذنوا لنا عليه.
قالوا: ما عليه إذن، هو ببئر الملك يعمل، فركبوا دوابهم حتى جاءوا إليه فوجدوه في الشمس ومعه أجير له، فقالوا: إن الشمس حارة، فارتفع معنا إلى الظل.
فارتفع معهم إلى الظل، فقالوا: لنا قرابة من نبي الله، وسابقة وجهاد، وإنك أعطيتنا بالسوية، ولم يكن عمر وعثمان يعطوننا بالسوية، كانوا يفضلوننا على غيرنا.
فقال (عليه السلام): فهذا قسم أبي بكر، وإلا تدعوا أبا بكر وغيره، وهذا كتاب الله فانظروا ما لكم من حق فخذوه.
قالوا: فسابقتنا.
قال: أنتما أسبق مني؟ قالا: لا، فقرابتنا من النبي.
قال: أقرب من قرابتي؟ قالا: لا، فجهادنا.
قال: أعظم من جهادي؟ قالا: لا، قال: فو الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلا بمنزلة سواء.
وفي اليوم الثاني جاء طلحة والزبير وجلسا في ناحية المسجد.
وجاء مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الله الزبير وجلسوا عندهما، وكان هؤلاء قد امتنعوا عن أخذ قسمتهم من بيت المال وجعلوا يطعنون في أمير المؤمنين (عليه السلام) والتفت عمار بن ياسر إلى أصحابه وهم جلوس عنده في ناحية أخرى من المسجد قائلا: هلموا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا ما نكره من الخلاف والطعن لإمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق (طلحة).
قام عمار ومن معه حتى جلسوا عندهم فتكلم أبو الهيثم وقال: إن لكم لقدماً في الإسلام، وسابقة وقرابة من أمير المؤمنين، وقد بلغنا عنكم طعن وسخط لأمير المؤمنين، فإن يكن لكما خاصة، فعاتبا ابن عمتكما، وإمامكما؟ وإن تكن النصيحة للمسلمين فلا تؤخراه عنه ونحن عون لكما فقد علمنا أن بني أمية لن تنصحكما أبداً، وقد عرفتما..فقال أحمد: قد عرفتما عداوتهم لكما، وقد شركتما في دم عثمان. وملأتما.
فسكت الزبير، وصاح طلحة ـ بصوت عال ـ : أفزعوا جميعاً مما تقولون، فإني قد عرفت إن في كل واحد منكم خطبة.
فتدخل عمار وأبدى النصيحة، وتقدم إبن الزبير وتكلم بكلام خشن فأمر عمار بإخراج ابن الزبير من المسجد، فقام الزبير منزعجاً من هذا العمل وخرج من المسجد، فقال عمار: لو لم يبق أحد إلا خالف علي بن أبي طالب لما خالفته، ولا زالت يدي مع يده، وذلك أن علياً لم يزل مع الحق منذ بعث الله محمد (صلّى الله عليه وآله) فإني أشهد أن لا ينبغي لأحد أن يفضل عليه أحداً.
فقام عمار وجماعة وجاءوا إلى أمير المؤمنين، وأخبروه بانشقاق القوم وأنهم كرهوا الأسوة والقسمة بالسوية إلى آخر كلامهم.
فخرج الإمام ودخل المسجد وصعد المنبر وقال ـ بعد الحمد والثناء على الله ـ : يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم؟ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين، أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها، وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم، وأما هذا الفيء (المال) فليس لأحد أثرة.
فقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض فليتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله الحاكم بحكم الله لا وحشة عليه! نزل الإمام عن المنبر وصلى ركعتين ثم بعث بعمار بن ياسر إلى طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد، فدعاهما، فجاء طلحة والزبير، وجلسا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال الإمام: نشدتكما الله؟ هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟ فقال الرجلان: نعم.
فقال الإمام: غير مجبورين ولا معسورين، فأسلمتما لي ببيعتكما أعطيتماني عهدكما؟؟ فقال الرجلان: نعم.
فقال الإمام: فما دعاكما إلى ما أرى؟ فقال الرجلان: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضي في الأمور، ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمور وتقضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا!! فقال الإمام ـ غاضباً ـ : لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً، فاستغفرا الله يغفر لكما، ألا تخبراني! أدفعتمكا عن حق واجب لكما فظلمتكما إياه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
فقال الإمام: فهل استأثرت من هذا المال بشيء؟ فقال الرجلان: معاذ الله، فقال الإمام: أفوقع حكم أوحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت فيه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
فقال الإمام: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ فقال الرجلان: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنك جعلت حقنا في القسم، كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيها ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً وقهراً ممن لا يرى الإسلام إلا كرها.
فقال الإمام: أما ما ذكرتما من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى رأيكما فيه ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلى المشورة لشاورتكما فيه.
وأما القسم والأسوة: فإن ذلك لم أحكم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأما قولكما: (جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلى الإسلام قوم، ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلا فضلهم رسول الله بالقسم، ولا آثر بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة بأعمالهم وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر، رحم الله امرئً رأى حقاً فأعان عليه، ورأى جوراً فردّه، وكان عونا للحق على من خالفه).
قام طلحة والزبير وانصرفا من عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وهما مغضبان ساخطان، وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما من رأيه وبعد يومين جاءا واستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا أمير المؤمنين: قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة، وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا.
فقال أمير المؤمنين: قد عرفتما مالي بـ(ينبع) فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر.
فقالا: لا حاجة لنا في مالك بـ(ينبغ) فقال أمير المؤمنين: ما أصنع؟ فقالا: اعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه كفاية.
فقال أمير المؤمنين: سبحان الله وأي يد لي في بيت مال المسلمين؟ وأنا خازنهم أمين لهم، فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك من الناس ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت، وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم؟ ولكني أبدي لكما عذراً، فقالا: ما كنا بالذي نكلفك ذلك، ولو كلفناك لما أجابك المسلمون.
فقال أمير المؤمنين: فما أصنع؟ فقالا: سمعنا ما عندك.
ثم حرج الرجلان من دار أمير المؤمنين، وقد يئسا من بيت المال، فجعلا يفكران في كيفية الخروج إلى مكة، والالتحاق بعائشة، إلى أن صار رأيهما على هذا وجاءا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقت خلوته وقالا: قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة، لأنا بعيدا العهد بها.
فأذن لنا فيها .
فنظر أمير المؤمنين في وجهيهما، وقرأ الغدر من فلتات لسانهما ودوران عيونهما، وقد احمر وجهه ولاح الغضب فيه فقال: والله ما تريدان العمرة، ولكنكما تريدان الغدرة، وإنكما تريدان البصرة.
فقال الرجلان: اللهم غفراً، ما نريد إلا العمرة.
فقال أمير المؤمنين: احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين، ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة.
فحلفا بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فخرج الرجلان من عنده، فلقيهما ابن عباس سائلاً: أذن لكما أمير المؤمنين؟ فقالا: نعم.
ودخل ابن عباس على الإمام فابتدأ الإمام (عليه السلام) قائلاً: يا ابن عباس: أعندك الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة والزبير.
فقال أمير المؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً ـ وبعد هنيئة ـ قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي، فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وكفيت المؤمنين شرهما؟ فقال أمير المؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدا؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا والله، لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل، ولا ابتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مناهما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي وبغيهما علي.
خرج الرجلان من المدينة متوجهين إلى مكة، فوجدا بني أمية قد أحاطوا بعائشة، ولحق بها جماعة من منافقي قريش، ولحق بها عبد الله بن عمر بن الخطاب وأخوه عبيد الله ومروان بن الحكم وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية، وجعلوا عائشة ملجأ لهم فيما دبروه من كيد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصار كل من يبغض علياً أو يكرهه أو يحسده أو يخاف منه استيفاء الحقوق منه، يلتحق بهذه الجماعة، وعائشة تنعى عثمان وتبرأ من قاتله وتحرض الناس على عداوة أمير المؤمنين، وتظهر بأن عليا قتل عثمان ظلماً.
وكانت عائشة لما وصلت إلى مكة، وأدت مناسك الحج، ولما فرغت بلغها خبر قتل عثمان استبشرت وقالت للناعي: قتلته أعماله، إنه أحرق كتاب الله، وأمات سنة رسول الله فقتله الله، ومن بايع الناس؟ فقال الناعي: لم أبرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبيد الله نعاجا لعثمان، وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شك أن الناس بايعوه.
فقالت عائشة ـ وهي فرحانة ـ : بعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الأصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عم! لله أبوك يا طلحة، أما إنهم وجدوا طلحة لها كفواً، لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع أحنوها لا بل دغدغوها! وجدوك لها محسنا ولها كافيا، شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي، لأتوجه إلى منزلي.
سارت عائشة حتى إذا وصلت إلى موضع يقال له: (شرفاء) لقيها رجل يقال له: عبيد بن أم كلاب، فسألته عائشة: ما الخبر؟ فقال الرجل: قتل عثمان.
فقالت عائشة قتل نعثل!!! أخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال الرجل: لما أحاط الناس بالدار، رأيت طلحة بن عبيد الله قد غلب على الأمر، واتخذ مفاتيح على بيوت الأموال والخزائن، وتهيأ ليبايع له، فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره، وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر حتى إذا أتوا علياً وهو في بيت سكن فيه فقالوا له: بايعنا على الطاعة لك، وكان علي (عليه السلام) يتفكر ساعة.
فقال الأشتر: يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.
وكان في الجماعة طلحة والزبير، فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي بن أبي طالب كلام قبل ذلك، فقام طلحة والزبير فبايعا، وأنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته.
ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر، فتكلم بكلام لا أحفظ إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد، فكلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم.
فقالت عائشة: لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا!! أنظر ماذا تقول؟ فقال الرجل: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين.
فقالت عائشة: إنا لله، أكره والله الرجل، وغصب علي بن أبي طالب أمرهم، وقتل خليفة الله مظلوما! ردوا بغالي ردوا بغالي!! فقال الرجل: ما شأنك يا أم المؤمنين؟ والله ما أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها من علي، ولا أحق، ولا أرى له نظيراً فلماذا تكرهين؟.
عائشة لا ترد جواباً، وعزمت على الرجوع إلى مكة، وفي طريقها رآها قيس بن حازم فقالت عائشة تخاطب نفسها: قتلوا ابن عفان مظلوما.
فقال قيس: يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفا تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه، وأقبحهم فيه قولا.
فقالت عائشة: لقد كان ذلك، ولكن نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه.
فقال عبيد بن أم كلاب:
فمنك البداءة ومـــنك الغير ومنك الريــاح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمـــــاموقلـــــــت لـــنا: إنه قد كفر
فهبنا أطعناك فــــــــي قتلهوقاتله عــــــــــندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقناولم ينكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا ارتـــداءيزيل الشـــــبا ويقيم الصعر
وتلبس للحــــــرب أوزارهاوما من وفى مثل من قد غدر
وصلت عائشة إلى مكة، وجاءها رجل يقال له: يعلى بن منبه، وكان من بني أمية وشيعة عثمان وقال لها: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله.
فقالت عائشة: برأت إلى الله ممن قتله.
فقال الرجل: ألآن أظهري البراءة ثانيا من قاتله، فخرجت إلى المسجد، فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان، وهنا وصل خبر عائشة إلى طلحة والزبير وهما في المدينة، فكتبا إليها كتاباً مع ابن أختها عبد الله بن الزبير وكان مضمون الكتاب (خذ لي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان).
قرأت عائشة ذلك الكتاب وكشفت عما في ضميرها وجعلت تطلب بدم عثمان وجاءت ووقفت عند الحجر الأسود وقالت: أيها الناس: إن الغوغاء (السفلة) من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل فقتلوه ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال الأحداث، وقد استعمل أمثالهم من قبله، ومواضع الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزل عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام! والله، لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! والله، لو أن الذي اعتدوا عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبئه، والثوب من درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.
فتقدم عبد الله بن عامر الحضرمي ـ وكان عامل عثمان على مكة ـ وقال: أنا أول طالب بدمه.
فكان أول مجيب.
فتبعه بنو أمية، وكانوا قد هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة فرفعوا رؤوسهم، فكان أول ما تكلموا في الحجاز.
ولما وصل طلحة والزبير إلى مكة أرسلا عبد الله بن الزبير إلى عائشة يطلبان منها الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان!! امتنعت عائشة من الإجابة لكنها ذهبت إلى أم سلمة تستشيرها في الخروج، ولما دخلت على أم سلمة ونعت إليها عثمان وأنه قتل مظلوما، صرخت أم سلمة صرخة وهي متعجبة من كلام عائشة وقالت: يا عائشة بالأمس كنت تشهدين عليه بالكفر وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوما؟؟ ثم إن عائشة ذكرت لأم سلمة عزمها على الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان وطلبت من أم سلمة أن ترافقها وتشاركها في تلك النهضة!! فجعلت أم سلمة تعاتب عائشة على تحريضها الناس بقتل عثمان ثم الطلب بدمه مع العلم أن عثمان من بني عبد مناف وعائشة امرأة من تيم بن مرة، وليس بينهما قرابة، ثم ذكرت أم سلمة شيئا من فضائل علي وأنه لا ينبغي لأحد أن يحارب عليا، ووعظتها وذكرتها بما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل علي (عليه السلام) وذكرتها بحديث النبي (صلّى الله عليه وآله) يوم قال: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب فتذكرت عائشة كل ذلك وقنعت بكلام أم سلمة ولكن التأثير كان مؤقتا، ثم عزمت على السفر إلى البصرة.
وأما يعلى بن منبه فقد اشترى أربعمائة بعير ونادى: أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلي جهازه.
ووصل الخبر إلى أم سلمة فقالت لعائشة: لقد وعظتك فلم تتعظي..ثم حذرتها عن تلك الفكرة وذكرت لها بأنها تهتك حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأنها زوجته وعرضه إلى آخر كلامها.
وخرجت عائشة بالجيش نحو البصرة وفي أثناء الطريق وصلوا إلى ماء الحوأب فنبحت الكلاب وقال قائل: ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها فأمسكت عائشة زمام بعيرها وصرخت: إنا لله وإنا إليه راجعون إني لهيه!! سمعت رسول الله ـ وعنده نساؤه ـ يقول: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثيرة، تنجو بعد ما كادت تقتل؟؟..ردوني، ردوني.
فأقبل جماعة وشهدوا وحلفوا أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت عائشة لوجهها نحو البصرة.
فوصل الخبر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأمر المنادي فنادى: الصلاة جامعة، اجتمع الناس في مسجد رسول الله في المدينة وصعد الإمام المنبر وخطب فيهم خطبة ذكر فيها الخلافة وأطوارها وأدوارها...
إلى أن قال: وبايعني هذان الرجلان ـ طلحة والزبير ـ في أول من بايع، وتعلمون ذلك، وقد نكثا غدرا، ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم.
أللهم: فخذ بما عملا واحدة رابية، ولا تنعش لهما ضرعة، ولا تقلهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا، فإنهما يطلبان حقا تركاه، ودما سفكاه، أللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت ـ وقولك الحق ـ : (ثم بغى عليه لينصرنه الله ...) اللهم أنجز لي موعدي ولا تكلني إلى نفسي إنك على كل شيء قدير.
ثم استشار الإمام أصحابه، فقال عمار بن ياسر: الرأي عندي: أن تسير إلى الكوفة، فإن أهلها شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة وأشار عليه عباس أن يأمر أم سلمة لتخرج معه تقوية لجانبه فقال الإمام: أما أم سلمة فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما أن الرجلان إخراج عائشة!! وأشار عليه جماعة أن يعتزل الفتنة ويذهب إلى ماله بـ(ينبع) فلم يقبل منه وأخيرا نادى الإمام: تجهزوا للمسير، فإن طلحة والزبير نكثا البيعة ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة، وسفك دماء أهل القبلة ورفع يديه للدعاء قائلا: اللهم: إن هذين الرجلين قد بغيا علي، ونكثا عهدي، ونقضا عقدي، وشقياني بغير حق سومهما ذلك، اللهم حذهما بظلمهما وأظفرني بهما، وانصرني عليهما.
وجعل الإمام (عليه السلام) تمام بن العباس والياً على المدينة وخرج بمن معه إلى الربذة، وإذا بطلحة والزبير قد ارتحلوا منها.
فأرسل الإمام محمد بن أبي بكر ومحمد بن الحنفية إلى الكوفة ليستنفرا أهل الكوفة، وكان والي الكوفة ـ يومذاك ـ أبا موسى الأشعري وكان أبو موسى عثماني الهوى، منحرفا عن علي (عليه السلام).
وكانت عائشة قد كتبت كتابا إلى أبي موسى تأمره أن يخذل الناس عن نصرة الإمام، وقام أبو موسى بتلبية طلبها، فخطب فيهم وأمرهم أن يجتنبوا الفتنة ويبتعدوا عن سفك دماء المسلمين.
لم يستطع محمد بن الحنفية ومجمد بن أبي بكر مقاومة الأشعري فرجعا إلى الإمام، وكان الإمام قد كتب ـ قبل ذلك ـ كتابا إلى الأشعري يأمره أن يخرج لمؤازرة الإمام، ولكن الأشعري استمر على رأيه وامتنع عن البيعة، وأظهر العداء الكامن في صدره، فأخبروا الإمام بذلك.
فكتب الإمام كتابا إلى الأشعري فيه خبر عزله عن الحكم والتهديد إن لم يعتزل، وكتاباً آخر إلى أهل الكوفة يذكر لهم فيه عما جرى على عثمان، ثم ذكر بيعة الناس له ومن جملتهم طلحة والزبير، ثم نكثهما البيعة وخروجهما ضد الإمام (عليه السلام).
وقبل وصول هذين الكتابين كان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد جاءوا إلى الكوفة وخطبوا في الناس الخطب المفصلة المطولة، يحثون الناس على نصرة الإمام.
فكان الأشعري يقوم ويخطب وينقض كلامهم ويخذل الناس ويأمرهم باعتزال الفتنة وعدم الخوض في المعركة.
وانقضت أيام وأيام والأمر هكذا في الكوفة وأمير المؤمنين ينتظر المدد وهو في أرض يقال لها: (ذو قار) واليوم يقال لها: (المقيرة) وهي قريب الناصرية في طريق البصرة.
وأخيرا خرج البطل الضرغام مالك الأشتر وأقبل إلى الكوفة ودخلها وهجم على دار الإمارة واستولى عليها، وأخرج غلمان أبي موسى منها.
كانت الحرب الباردة قائمة في المسجد بين الأشعري وبين أصحاب الإمام وإذا بغلمان الأشعري دخلوا المسجد، وهم ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر.
ودخل أصحاب الأشتر وصاحوا: أخرج من المسجد، يا ويلك أخرج الله روحك، إنك والله من المنافقين.
خرج أبو موسى معزولاً خائباً مخذولاً، وأراد الناس أن ينهبوا أمواله فمنعهم الأشتر.
وأقبل الأشتر فصعد المنبر وقال: وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا، وأعظمهم في الإسلام سهما،ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأفقه الناس في الدين، وأقرأهم كتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد استنفركم، فما تنتظرون؟ أسعيداً؟ أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر؟ واستباح ما حرمه الله فيكم.
أي هذين الرجلين تريدون؟ قبح الله من له هذا الرأي!! فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم، ولا يختلف رجل له قوة، فو الله ما يدري رجل منكم ما يضره وما ينفعه، وإني لكم ناصح شفيق عليكم إن كنتم تعقلون، أو تبصرون.
علي (عليه السلام) يوم الجمل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على كل حال وصلى الله على محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
انتهى الكلام في الليلة الماضية حول وفاة عثمان، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما.
اجتمعت الصحابة ـ بعد مقتل عثمان ـ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتشاوروا في أمر الإمامة، فأشار بعضهم بعلي (عليه السلام) وهم: عمار بن ياسر وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان وغيرهم، فذكروا سابقة علي (عليه السلام) وفضله جهاده، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيباً يذكر فضل علي، فمنهم من فضله على أهل عصره، ومنهم من فضله على جميع المسلمين عامة، فأتى الناس عليا ليبايعوه، فقال (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان لا تقوم له القلوب.
فقالوا:ننشدك الله: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟
وقال الشعبي: أقبل الناس إلى علي (عليه السلام) ليبايعوه، ومالوا إليه، فمدوا يده فكفها، وبسطوها فقبضها حتى بايعوه.
قال (عليه السلام): لا حاجة لي في أمرتكم، فمن اخترتم رضيت به.
فقالوا: ما نختار غيرك.
وترددوا إليه مراراً، وقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
فقال (عليه السلام): ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا في المسجد ـ وكان في بيته ـ فخرج إلى المسجد، وعليه قميص وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوكئاً علو قوسه، فبايعه الناس، وكان أول من بايعه من الناس: طلحة، ثم الزبير ثم بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين.
ولما أراد طلحة والزبير أن يبايعا قال لهما أمير المؤمنين: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: بل نبايعك.
وجاءوا بسعد بن أبي وقاص فقال له علي: بايع.
قال: لا حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس.
فقال الإمام: خلوا سبيله.
وجاءوا بعبد الله بن عمر فقالوا: بايع.
فقال: لا، حتى يبايع الناس فقال (عليه السلام): ائتني بكفيل.
قال: لا أرى كفيلا.
فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه.
فقال الإمام: دعوه أنا كفيله!.
كان الازدحام على الإمام علي بصورة مدهشة، وكاد الناس أن يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازدحام.
فبويع له بالخلافة يوم الجمعة لثمانية عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة.
ومن ذلك اليوم نهض علي (عليه السلام) بأعباء الخلافة، وأول خطوة تقدم بها الإمام إلى العدالة هو تقسيم بيت مال المسلمين بالسوية وذلك في اليوم الثاني من بيعته، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما قال:
أما بعد، لما قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) استخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شورى بين ستة، فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم، ثم حصر، ثم قتل، ثم جئتموني فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم..إلخ.
ثم التفت يمينا وشمالا فقال: ألا لا يقولن رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!! ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل لأحد على أحد، وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب.
وإذا كان غد ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إذا كان مسلما حرا إلا حضر، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
وعن عمار وابن عباس قالا: إنه (عليه السلام) لما صعد المنبر قال لنا: قوموا فتخللوا الصفوف، ونادوا هل من كاره؟ فتصارخ الناس من كل جانب: اللهم قد رضينا وسلمنا وأطعنا رسولك وابن عمه، فقال (عليه السلام): قم يا عمار إلى بيت المال، فأعط الناس، ثلاثة دنانير لكل إنسان وادفع لي ثلاثة دنانير!! فمضى عمار وأبو الهيثم وجماعة من المسلمين إلى بيت المال، ومضى أمير المؤمنين إلى مسجد قباء يصلي فيه، فوجدوا ثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا الناس مائة ألف فقال عمار: جاء والله الحق من ربكم، والله ما علم بالمال ولا بالناس وإن هذه الآية وجبت عليكم بها طاعة الرجل.
أول شيء كرهه الناس من أمير المؤمنين تقسيمه العطاء بالسوية فقد قال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال (عليه السلام): نعطيه كما نعطيك!! وأمر الإمام أن يبدأوا في العطاء بالمهاجرين ثم يثنون بالأنصار ثم من حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود.
تخلف من هذه القسمة يومئذ طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش، ومن هنا بدأت التفرقة ونشب الخلاف، وتولدت الفتنة.
وأقبل هؤلاء وجلسوا في ناحية من المسجد، ولم يجلسوا عند علي (عليه السلام) ثم قام الوليد بن عقبة فجاء إلى الإمام فقال: يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا: فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوانك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في يوم عثمان وأن تقتل قتلة عثمان، وإنا إن خفناك تركناك والتحقنا بالشام.
فقال (عليه السلام): أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أُسيّركم.
فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم، فافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، لأن عماراً وعبد الله بن رافع وغيرهما لما قسموا المال بين الناس بالسوية أخذ علي (عليه السلام) مكتله ومسحاته ثم انطلق إلى بئر الملك فعمل فيها فأخذ الناس ذلك القسم حتى بلغوا الزبير وطلحة وعبد الله بن عمر فأمسكوا بأيديهم، وامتنعوا عن القبول وقالوا: هذا منكم أو من صاحبكم؟ فقالوا: هذا أمره، ولا نعمل إلا بأمره، قالوا استأذنوا لنا عليه.
قالوا: ما عليه إذن، هو ببئر الملك يعمل، فركبوا دوابهم حتى جاءوا إليه فوجدوه في الشمس ومعه أجير له، فقالوا: إن الشمس حارة، فارتفع معنا إلى الظل.
فارتفع معهم إلى الظل، فقالوا: لنا قرابة من نبي الله، وسابقة وجهاد، وإنك أعطيتنا بالسوية، ولم يكن عمر وعثمان يعطوننا بالسوية، كانوا يفضلوننا على غيرنا.
فقال (عليه السلام): فهذا قسم أبي بكر، وإلا تدعوا أبا بكر وغيره، وهذا كتاب الله فانظروا ما لكم من حق فخذوه.
قالوا: فسابقتنا.
قال: أنتما أسبق مني؟ قالا: لا، فقرابتنا من النبي.
قال: أقرب من قرابتي؟ قالا: لا، فجهادنا.
قال: أعظم من جهادي؟ قالا: لا، قال: فو الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلا بمنزلة سواء.
وفي اليوم الثاني جاء طلحة والزبير وجلسا في ناحية المسجد.
وجاء مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الله الزبير وجلسوا عندهما، وكان هؤلاء قد امتنعوا عن أخذ قسمتهم من بيت المال وجعلوا يطعنون في أمير المؤمنين (عليه السلام) والتفت عمار بن ياسر إلى أصحابه وهم جلوس عنده في ناحية أخرى من المسجد قائلا: هلموا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا ما نكره من الخلاف والطعن لإمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق (طلحة).
قام عمار ومن معه حتى جلسوا عندهم فتكلم أبو الهيثم وقال: إن لكم لقدماً في الإسلام، وسابقة وقرابة من أمير المؤمنين، وقد بلغنا عنكم طعن وسخط لأمير المؤمنين، فإن يكن لكما خاصة، فعاتبا ابن عمتكما، وإمامكما؟ وإن تكن النصيحة للمسلمين فلا تؤخراه عنه ونحن عون لكما فقد علمنا أن بني أمية لن تنصحكما أبداً، وقد عرفتما..فقال أحمد: قد عرفتما عداوتهم لكما، وقد شركتما في دم عثمان. وملأتما.
فسكت الزبير، وصاح طلحة ـ بصوت عال ـ : أفزعوا جميعاً مما تقولون، فإني قد عرفت إن في كل واحد منكم خطبة.
فتدخل عمار وأبدى النصيحة، وتقدم إبن الزبير وتكلم بكلام خشن فأمر عمار بإخراج ابن الزبير من المسجد، فقام الزبير منزعجاً من هذا العمل وخرج من المسجد، فقال عمار: لو لم يبق أحد إلا خالف علي بن أبي طالب لما خالفته، ولا زالت يدي مع يده، وذلك أن علياً لم يزل مع الحق منذ بعث الله محمد (صلّى الله عليه وآله) فإني أشهد أن لا ينبغي لأحد أن يفضل عليه أحداً.
فقام عمار وجماعة وجاءوا إلى أمير المؤمنين، وأخبروه بانشقاق القوم وأنهم كرهوا الأسوة والقسمة بالسوية إلى آخر كلامهم.
فخرج الإمام ودخل المسجد وصعد المنبر وقال ـ بعد الحمد والثناء على الله ـ : يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم؟ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين، أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها، وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم، وأما هذا الفيء (المال) فليس لأحد أثرة.
فقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض فليتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله الحاكم بحكم الله لا وحشة عليه! نزل الإمام عن المنبر وصلى ركعتين ثم بعث بعمار بن ياسر إلى طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد، فدعاهما، فجاء طلحة والزبير، وجلسا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال الإمام: نشدتكما الله؟ هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟ فقال الرجلان: نعم.
فقال الإمام: غير مجبورين ولا معسورين، فأسلمتما لي ببيعتكما أعطيتماني عهدكما؟؟ فقال الرجلان: نعم.
فقال الإمام: فما دعاكما إلى ما أرى؟ فقال الرجلان: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضي في الأمور، ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمور وتقضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا!! فقال الإمام ـ غاضباً ـ : لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً، فاستغفرا الله يغفر لكما، ألا تخبراني! أدفعتمكا عن حق واجب لكما فظلمتكما إياه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
فقال الإمام: فهل استأثرت من هذا المال بشيء؟ فقال الرجلان: معاذ الله، فقال الإمام: أفوقع حكم أوحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت فيه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
فقال الإمام: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ فقال الرجلان: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنك جعلت حقنا في القسم، كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيها ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً وقهراً ممن لا يرى الإسلام إلا كرها.
فقال الإمام: أما ما ذكرتما من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى رأيكما فيه ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلى المشورة لشاورتكما فيه.
وأما القسم والأسوة: فإن ذلك لم أحكم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأما قولكما: (جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلى الإسلام قوم، ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلا فضلهم رسول الله بالقسم، ولا آثر بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة بأعمالهم وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر، رحم الله امرئً رأى حقاً فأعان عليه، ورأى جوراً فردّه، وكان عونا للحق على من خالفه).
قام طلحة والزبير وانصرفا من عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وهما مغضبان ساخطان، وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما من رأيه وبعد يومين جاءا واستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا أمير المؤمنين: قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة، وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا.
فقال أمير المؤمنين: قد عرفتما مالي بـ(ينبع) فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر.
فقالا: لا حاجة لنا في مالك بـ(ينبغ) فقال أمير المؤمنين: ما أصنع؟ فقالا: اعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه كفاية.
فقال أمير المؤمنين: سبحان الله وأي يد لي في بيت مال المسلمين؟ وأنا خازنهم أمين لهم، فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك من الناس ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت، وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم؟ ولكني أبدي لكما عذراً، فقالا: ما كنا بالذي نكلفك ذلك، ولو كلفناك لما أجابك المسلمون.
فقال أمير المؤمنين: فما أصنع؟ فقالا: سمعنا ما عندك.
ثم حرج الرجلان من دار أمير المؤمنين، وقد يئسا من بيت المال، فجعلا يفكران في كيفية الخروج إلى مكة، والالتحاق بعائشة، إلى أن صار رأيهما على هذا وجاءا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقت خلوته وقالا: قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة، لأنا بعيدا العهد بها.
فأذن لنا فيها .
فنظر أمير المؤمنين في وجهيهما، وقرأ الغدر من فلتات لسانهما ودوران عيونهما، وقد احمر وجهه ولاح الغضب فيه فقال: والله ما تريدان العمرة، ولكنكما تريدان الغدرة، وإنكما تريدان البصرة.
فقال الرجلان: اللهم غفراً، ما نريد إلا العمرة.
فقال أمير المؤمنين: احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين، ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة.
فحلفا بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فخرج الرجلان من عنده، فلقيهما ابن عباس سائلاً: أذن لكما أمير المؤمنين؟ فقالا: نعم.
ودخل ابن عباس على الإمام فابتدأ الإمام (عليه السلام) قائلاً: يا ابن عباس: أعندك الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة والزبير.
فقال أمير المؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً ـ وبعد هنيئة ـ قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي، فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وكفيت المؤمنين شرهما؟ فقال أمير المؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدا؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا والله، لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل، ولا ابتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مناهما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي وبغيهما علي.
خرج الرجلان من المدينة متوجهين إلى مكة، فوجدا بني أمية قد أحاطوا بعائشة، ولحق بها جماعة من منافقي قريش، ولحق بها عبد الله بن عمر بن الخطاب وأخوه عبيد الله ومروان بن الحكم وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية، وجعلوا عائشة ملجأ لهم فيما دبروه من كيد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصار كل من يبغض علياً أو يكرهه أو يحسده أو يخاف منه استيفاء الحقوق منه، يلتحق بهذه الجماعة، وعائشة تنعى عثمان وتبرأ من قاتله وتحرض الناس على عداوة أمير المؤمنين، وتظهر بأن عليا قتل عثمان ظلماً.
وكانت عائشة لما وصلت إلى مكة، وأدت مناسك الحج، ولما فرغت بلغها خبر قتل عثمان استبشرت وقالت للناعي: قتلته أعماله، إنه أحرق كتاب الله، وأمات سنة رسول الله فقتله الله، ومن بايع الناس؟ فقال الناعي: لم أبرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبيد الله نعاجا لعثمان، وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شك أن الناس بايعوه.
فقالت عائشة ـ وهي فرحانة ـ : بعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الأصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عم! لله أبوك يا طلحة، أما إنهم وجدوا طلحة لها كفواً، لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع أحنوها لا بل دغدغوها! وجدوك لها محسنا ولها كافيا، شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي، لأتوجه إلى منزلي.
سارت عائشة حتى إذا وصلت إلى موضع يقال له: (شرفاء) لقيها رجل يقال له: عبيد بن أم كلاب، فسألته عائشة: ما الخبر؟ فقال الرجل: قتل عثمان.
فقالت عائشة قتل نعثل!!! أخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال الرجل: لما أحاط الناس بالدار، رأيت طلحة بن عبيد الله قد غلب على الأمر، واتخذ مفاتيح على بيوت الأموال والخزائن، وتهيأ ليبايع له، فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره، وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر حتى إذا أتوا علياً وهو في بيت سكن فيه فقالوا له: بايعنا على الطاعة لك، وكان علي (عليه السلام) يتفكر ساعة.
فقال الأشتر: يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.
وكان في الجماعة طلحة والزبير، فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي بن أبي طالب كلام قبل ذلك، فقام طلحة والزبير فبايعا، وأنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته.
ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر، فتكلم بكلام لا أحفظ إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد، فكلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم.
فقالت عائشة: لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا!! أنظر ماذا تقول؟ فقال الرجل: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين.
فقالت عائشة: إنا لله، أكره والله الرجل، وغصب علي بن أبي طالب أمرهم، وقتل خليفة الله مظلوما! ردوا بغالي ردوا بغالي!! فقال الرجل: ما شأنك يا أم المؤمنين؟ والله ما أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها من علي، ولا أحق، ولا أرى له نظيراً فلماذا تكرهين؟.
عائشة لا ترد جواباً، وعزمت على الرجوع إلى مكة، وفي طريقها رآها قيس بن حازم فقالت عائشة تخاطب نفسها: قتلوا ابن عفان مظلوما.
فقال قيس: يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفا تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه، وأقبحهم فيه قولا.
فقالت عائشة: لقد كان ذلك، ولكن نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه.
فقال عبيد بن أم كلاب:
فمنك البداءة ومـــنك الغير ومنك الريــاح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمـــــاموقلـــــــت لـــنا: إنه قد كفر
فهبنا أطعناك فــــــــي قتلهوقاتله عــــــــــندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقناولم ينكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا ارتـــداءيزيل الشـــــبا ويقيم الصعر
وتلبس للحــــــرب أوزارهاوما من وفى مثل من قد غدر
وصلت عائشة إلى مكة، وجاءها رجل يقال له: يعلى بن منبه، وكان من بني أمية وشيعة عثمان وقال لها: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله.
فقالت عائشة: برأت إلى الله ممن قتله.
فقال الرجل: ألآن أظهري البراءة ثانيا من قاتله، فخرجت إلى المسجد، فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان، وهنا وصل خبر عائشة إلى طلحة والزبير وهما في المدينة، فكتبا إليها كتاباً مع ابن أختها عبد الله بن الزبير وكان مضمون الكتاب (خذ لي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان).
قرأت عائشة ذلك الكتاب وكشفت عما في ضميرها وجعلت تطلب بدم عثمان وجاءت ووقفت عند الحجر الأسود وقالت: أيها الناس: إن الغوغاء (السفلة) من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل فقتلوه ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال الأحداث، وقد استعمل أمثالهم من قبله، ومواضع الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزل عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام! والله، لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! والله، لو أن الذي اعتدوا عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبئه، والثوب من درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.
فتقدم عبد الله بن عامر الحضرمي ـ وكان عامل عثمان على مكة ـ وقال: أنا أول طالب بدمه.
فكان أول مجيب.
فتبعه بنو أمية، وكانوا قد هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة فرفعوا رؤوسهم، فكان أول ما تكلموا في الحجاز.
ولما وصل طلحة والزبير إلى مكة أرسلا عبد الله بن الزبير إلى عائشة يطلبان منها الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان!! امتنعت عائشة من الإجابة لكنها ذهبت إلى أم سلمة تستشيرها في الخروج، ولما دخلت على أم سلمة ونعت إليها عثمان وأنه قتل مظلوما، صرخت أم سلمة صرخة وهي متعجبة من كلام عائشة وقالت: يا عائشة بالأمس كنت تشهدين عليه بالكفر وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوما؟؟ ثم إن عائشة ذكرت لأم سلمة عزمها على الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان وطلبت من أم سلمة أن ترافقها وتشاركها في تلك النهضة!! فجعلت أم سلمة تعاتب عائشة على تحريضها الناس بقتل عثمان ثم الطلب بدمه مع العلم أن عثمان من بني عبد مناف وعائشة امرأة من تيم بن مرة، وليس بينهما قرابة، ثم ذكرت أم سلمة شيئا من فضائل علي وأنه لا ينبغي لأحد أن يحارب عليا، ووعظتها وذكرتها بما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل علي (عليه السلام) وذكرتها بحديث النبي (صلّى الله عليه وآله) يوم قال: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب فتذكرت عائشة كل ذلك وقنعت بكلام أم سلمة ولكن التأثير كان مؤقتا، ثم عزمت على السفر إلى البصرة.
وأما يعلى بن منبه فقد اشترى أربعمائة بعير ونادى: أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلي جهازه.
ووصل الخبر إلى أم سلمة فقالت لعائشة: لقد وعظتك فلم تتعظي..ثم حذرتها عن تلك الفكرة وذكرت لها بأنها تهتك حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأنها زوجته وعرضه إلى آخر كلامها.
وخرجت عائشة بالجيش نحو البصرة وفي أثناء الطريق وصلوا إلى ماء الحوأب فنبحت الكلاب وقال قائل: ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها فأمسكت عائشة زمام بعيرها وصرخت: إنا لله وإنا إليه راجعون إني لهيه!! سمعت رسول الله ـ وعنده نساؤه ـ يقول: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثيرة، تنجو بعد ما كادت تقتل؟؟..ردوني، ردوني.
فأقبل جماعة وشهدوا وحلفوا أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت عائشة لوجهها نحو البصرة.
فوصل الخبر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأمر المنادي فنادى: الصلاة جامعة، اجتمع الناس في مسجد رسول الله في المدينة وصعد الإمام المنبر وخطب فيهم خطبة ذكر فيها الخلافة وأطوارها وأدوارها...
إلى أن قال: وبايعني هذان الرجلان ـ طلحة والزبير ـ في أول من بايع، وتعلمون ذلك، وقد نكثا غدرا، ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم.
أللهم: فخذ بما عملا واحدة رابية، ولا تنعش لهما ضرعة، ولا تقلهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا، فإنهما يطلبان حقا تركاه، ودما سفكاه، أللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت ـ وقولك الحق ـ : (ثم بغى عليه لينصرنه الله ...) اللهم أنجز لي موعدي ولا تكلني إلى نفسي إنك على كل شيء قدير.
ثم استشار الإمام أصحابه، فقال عمار بن ياسر: الرأي عندي: أن تسير إلى الكوفة، فإن أهلها شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة وأشار عليه عباس أن يأمر أم سلمة لتخرج معه تقوية لجانبه فقال الإمام: أما أم سلمة فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما أن الرجلان إخراج عائشة!! وأشار عليه جماعة أن يعتزل الفتنة ويذهب إلى ماله بـ(ينبع) فلم يقبل منه وأخيرا نادى الإمام: تجهزوا للمسير، فإن طلحة والزبير نكثا البيعة ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة، وسفك دماء أهل القبلة ورفع يديه للدعاء قائلا: اللهم: إن هذين الرجلين قد بغيا علي، ونكثا عهدي، ونقضا عقدي، وشقياني بغير حق سومهما ذلك، اللهم حذهما بظلمهما وأظفرني بهما، وانصرني عليهما.
وجعل الإمام (عليه السلام) تمام بن العباس والياً على المدينة وخرج بمن معه إلى الربذة، وإذا بطلحة والزبير قد ارتحلوا منها.
فأرسل الإمام محمد بن أبي بكر ومحمد بن الحنفية إلى الكوفة ليستنفرا أهل الكوفة، وكان والي الكوفة ـ يومذاك ـ أبا موسى الأشعري وكان أبو موسى عثماني الهوى، منحرفا عن علي (عليه السلام).
وكانت عائشة قد كتبت كتابا إلى أبي موسى تأمره أن يخذل الناس عن نصرة الإمام، وقام أبو موسى بتلبية طلبها، فخطب فيهم وأمرهم أن يجتنبوا الفتنة ويبتعدوا عن سفك دماء المسلمين.
لم يستطع محمد بن الحنفية ومجمد بن أبي بكر مقاومة الأشعري فرجعا إلى الإمام، وكان الإمام قد كتب ـ قبل ذلك ـ كتابا إلى الأشعري يأمره أن يخرج لمؤازرة الإمام، ولكن الأشعري استمر على رأيه وامتنع عن البيعة، وأظهر العداء الكامن في صدره، فأخبروا الإمام بذلك.
فكتب الإمام كتابا إلى الأشعري فيه خبر عزله عن الحكم والتهديد إن لم يعتزل، وكتاباً آخر إلى أهل الكوفة يذكر لهم فيه عما جرى على عثمان، ثم ذكر بيعة الناس له ومن جملتهم طلحة والزبير، ثم نكثهما البيعة وخروجهما ضد الإمام (عليه السلام).
وقبل وصول هذين الكتابين كان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد جاءوا إلى الكوفة وخطبوا في الناس الخطب المفصلة المطولة، يحثون الناس على نصرة الإمام.
فكان الأشعري يقوم ويخطب وينقض كلامهم ويخذل الناس ويأمرهم باعتزال الفتنة وعدم الخوض في المعركة.
وانقضت أيام وأيام والأمر هكذا في الكوفة وأمير المؤمنين ينتظر المدد وهو في أرض يقال لها: (ذو قار) واليوم يقال لها: (المقيرة) وهي قريب الناصرية في طريق البصرة.
وأخيرا خرج البطل الضرغام مالك الأشتر وأقبل إلى الكوفة ودخلها وهجم على دار الإمارة واستولى عليها، وأخرج غلمان أبي موسى منها.
كانت الحرب الباردة قائمة في المسجد بين الأشعري وبين أصحاب الإمام وإذا بغلمان الأشعري دخلوا المسجد، وهم ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر.
ودخل أصحاب الأشتر وصاحوا: أخرج من المسجد، يا ويلك أخرج الله روحك، إنك والله من المنافقين.
خرج أبو موسى معزولاً خائباً مخذولاً، وأراد الناس أن ينهبوا أمواله فمنعهم الأشتر.
وأقبل الأشتر فصعد المنبر وقال: وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا، وأعظمهم في الإسلام سهما،ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأفقه الناس في الدين، وأقرأهم كتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد استنفركم، فما تنتظرون؟ أسعيداً؟ أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر؟ واستباح ما حرمه الله فيكم.
أي هذين الرجلين تريدون؟ قبح الله من له هذا الرأي!! فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم، ولا يختلف رجل له قوة، فو الله ما يدري رجل منكم ما يضره وما ينفعه، وإني لكم ناصح شفيق عليكم إن كنتم تعقلون، أو تبصرون.