أداة تخصيص استايل المنتدى
إعادة التخصيصات التي تمت بهذا الستايل

- الاعلانات تختفي تماما عند تسجيلك
- عضــو و لديـك مشكلـة فـي الدخول ؟ يــرجى تسجيل عضويه جديده و مراسلـة المديــر
او كتابــة مــوضـــوع فــي قســم الشكـاوي او مـراسلــة صفحتنـا على الفيس بــوك

من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) يوم الجمل


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على كل حال وصلى الله على محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
انتهى الكلام في الليلة الماضية حول وفاة عثمان، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما.
اجتمعت الصحابة ـ بعد مقتل عثمان ـ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتشاوروا في أمر الإمامة، فأشار بعضهم بعلي (عليه السلام) وهم: عمار بن ياسر وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان وغيرهم، فذكروا سابقة علي (عليه السلام) وفضله جهاده، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيباً يذكر فضل علي، فمنهم من فضله على أهل عصره، ومنهم من فضله على جميع المسلمين عامة، فأتى الناس عليا ليبايعوه، فقال (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان لا تقوم له القلوب.
فقالوا:ننشدك الله: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟
وقال الشعبي: أقبل الناس إلى علي (عليه السلام) ليبايعوه، ومالوا إليه، فمدوا يده فكفها، وبسطوها فقبضها حتى بايعوه.
قال (عليه السلام): لا حاجة لي في أمرتكم، فمن اخترتم رضيت به.
فقالوا: ما نختار غيرك.
وترددوا إليه مراراً، وقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
فقال (عليه السلام): ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلا في المسجد ـ وكان في بيته ـ فخرج إلى المسجد، وعليه قميص وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوكئاً علو قوسه، فبايعه الناس، وكان أول من بايعه من الناس: طلحة، ثم الزبير ثم بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين.
ولما أراد طلحة والزبير أن يبايعا قال لهما أمير المؤمنين: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: بل نبايعك.
وجاءوا بسعد بن أبي وقاص فقال له علي: بايع.
قال: لا حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس.
فقال الإمام: خلوا سبيله.
وجاءوا بعبد الله بن عمر فقالوا: بايع.
فقال: لا، حتى يبايع الناس فقال (عليه السلام): ائتني بكفيل.
قال: لا أرى كفيلا.
فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه.
فقال الإمام: دعوه أنا كفيله!.
كان الازدحام على الإمام علي بصورة مدهشة، وكاد الناس أن يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازدحام.
فبويع له بالخلافة يوم الجمعة لثمانية عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة.
ومن ذلك اليوم نهض علي (عليه السلام) بأعباء الخلافة، وأول خطوة تقدم بها الإمام إلى العدالة هو تقسيم بيت مال المسلمين بالسوية وذلك في اليوم الثاني من بيعته، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وكان مما قال:
أما بعد، لما قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) استخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شورى بين ستة، فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم، ثم حصر، ثم قتل، ثم جئتموني فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم..إلخ.
ثم التفت يمينا وشمالا فقال: ألا لا يقولن رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!! ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل لأحد على أحد، وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب.
وإذا كان غد ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إذا كان مسلما حرا إلا حضر، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
وعن عمار وابن عباس قالا: إنه (عليه السلام) لما صعد المنبر قال لنا: قوموا فتخللوا الصفوف، ونادوا هل من كاره؟ فتصارخ الناس من كل جانب: اللهم قد رضينا وسلمنا وأطعنا رسولك وابن عمه، فقال (عليه السلام): قم يا عمار إلى بيت المال، فأعط الناس، ثلاثة دنانير لكل إنسان وادفع لي ثلاثة دنانير!! فمضى عمار وأبو الهيثم وجماعة من المسلمين إلى بيت المال، ومضى أمير المؤمنين إلى مسجد قباء يصلي فيه، فوجدوا ثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا الناس مائة ألف فقال عمار: جاء والله الحق من ربكم، والله ما علم بالمال ولا بالناس وإن هذه الآية وجبت عليكم بها طاعة الرجل.
أول شيء كرهه الناس من أمير المؤمنين تقسيمه العطاء بالسوية فقد قال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال (عليه السلام): نعطيه كما نعطيك!! وأمر الإمام أن يبدأوا في العطاء بالمهاجرين ثم يثنون بالأنصار ثم من حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود.
تخلف من هذه القسمة يومئذ طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش، ومن هنا بدأت التفرقة ونشب الخلاف، وتولدت الفتنة.
وأقبل هؤلاء وجلسوا في ناحية من المسجد، ولم يجلسوا عند علي (عليه السلام) ثم قام الوليد بن عقبة فجاء إلى الإمام فقال: يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً، أما أنا: فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن إخوانك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في يوم عثمان وأن تقتل قتلة عثمان، وإنا إن خفناك تركناك والتحقنا بالشام.
فقال (عليه السلام): أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس، ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أُسيّركم.
فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم، فافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف، لأن عماراً وعبد الله بن رافع وغيرهما لما قسموا المال بين الناس بالسوية أخذ علي (عليه السلام) مكتله ومسحاته ثم انطلق إلى بئر الملك فعمل فيها فأخذ الناس ذلك القسم حتى بلغوا الزبير وطلحة وعبد الله بن عمر فأمسكوا بأيديهم، وامتنعوا عن القبول وقالوا: هذا منكم أو من صاحبكم؟ فقالوا: هذا أمره، ولا نعمل إلا بأمره، قالوا استأذنوا لنا عليه.
قالوا: ما عليه إذن، هو ببئر الملك يعمل، فركبوا دوابهم حتى جاءوا إليه فوجدوه في الشمس ومعه أجير له، فقالوا: إن الشمس حارة، فارتفع معنا إلى الظل.
فارتفع معهم إلى الظل، فقالوا: لنا قرابة من نبي الله، وسابقة وجهاد، وإنك أعطيتنا بالسوية، ولم يكن عمر وعثمان يعطوننا بالسوية، كانوا يفضلوننا على غيرنا.
فقال (عليه السلام): فهذا قسم أبي بكر، وإلا تدعوا أبا بكر وغيره، وهذا كتاب الله فانظروا ما لكم من حق فخذوه.
قالوا: فسابقتنا.
قال: أنتما أسبق مني؟ قالا: لا، فقرابتنا من النبي.
قال: أقرب من قرابتي؟ قالا: لا، فجهادنا.
قال: أعظم من جهادي؟ قالا: لا، قال: فو الله ما أنا في هذا المال وأجيري إلا بمنزلة سواء.
وفي اليوم الثاني جاء طلحة والزبير وجلسا في ناحية المسجد.
وجاء مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الله الزبير وجلسوا عندهما، وكان هؤلاء قد امتنعوا عن أخذ قسمتهم من بيت المال وجعلوا يطعنون في أمير المؤمنين (عليه السلام) والتفت عمار بن ياسر إلى أصحابه وهم جلوس عنده في ناحية أخرى من المسجد قائلا: هلموا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا ما نكره من الخلاف والطعن لإمامهم، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق (طلحة).
قام عمار ومن معه حتى جلسوا عندهم فتكلم أبو الهيثم وقال: إن لكم لقدماً في الإسلام، وسابقة وقرابة من أمير المؤمنين، وقد بلغنا عنكم طعن وسخط لأمير المؤمنين، فإن يكن لكما خاصة، فعاتبا ابن عمتكما، وإمامكما؟ وإن تكن النصيحة للمسلمين فلا تؤخراه عنه ونحن عون لكما فقد علمنا أن بني أمية لن تنصحكما أبداً، وقد عرفتما..فقال أحمد: قد عرفتما عداوتهم لكما، وقد شركتما في دم عثمان. وملأتما.
فسكت الزبير، وصاح طلحة ـ بصوت عال ـ : أفزعوا جميعاً مما تقولون، فإني قد عرفت إن في كل واحد منكم خطبة.
فتدخل عمار وأبدى النصيحة، وتقدم إبن الزبير وتكلم بكلام خشن فأمر عمار بإخراج ابن الزبير من المسجد، فقام الزبير منزعجاً من هذا العمل وخرج من المسجد، فقال عمار: لو لم يبق أحد إلا خالف علي بن أبي طالب لما خالفته، ولا زالت يدي مع يده، وذلك أن علياً لم يزل مع الحق منذ بعث الله محمد (صلّى الله عليه وآله) فإني أشهد أن لا ينبغي لأحد أن يفضل عليه أحداً.
فقام عمار وجماعة وجاءوا إلى أمير المؤمنين، وأخبروه بانشقاق القوم وأنهم كرهوا الأسوة والقسمة بالسوية إلى آخر كلامهم.
فخرج الإمام ودخل المسجد وصعد المنبر وقال ـ بعد الحمد والثناء على الله ـ : يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم؟ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين، أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها، وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم، وأما هذا الفيء (المال) فليس لأحد أثرة.
فقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض فليتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله الحاكم بحكم الله لا وحشة عليه! نزل الإمام عن المنبر وصلى ركعتين ثم بعث بعمار بن ياسر إلى طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد، فدعاهما، فجاء طلحة والزبير، وجلسا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال الإمام: نشدتكما الله؟ هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟ فقال الرجلان: نعم.
فقال الإمام: غير مجبورين ولا معسورين، فأسلمتما لي ببيعتكما أعطيتماني عهدكما؟؟ فقال الرجلان: نعم.
فقال الإمام: فما دعاكما إلى ما أرى؟ فقال الرجلان: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضي في الأمور، ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمور وتقضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا!! فقال الإمام ـ غاضباً ـ : لقد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً، فاستغفرا الله يغفر لكما، ألا تخبراني! أدفعتمكا عن حق واجب لكما فظلمتكما إياه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
فقال الإمام: فهل استأثرت من هذا المال بشيء؟ فقال الرجلان: معاذ الله، فقال الإمام: أفوقع حكم أوحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت فيه؟ فقال الرجلان: معاذ الله.
فقال الإمام: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ فقال الرجلان: خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنك جعلت حقنا في القسم، كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيها ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً وقهراً ممن لا يرى الإسلام إلا كرها.
فقال الإمام: أما ما ذكرتما من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى رأيكما فيه ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه واحتيج إلى المشورة لشاورتكما فيه.
وأما القسم والأسوة: فإن ذلك لم أحكم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأما قولكما: (جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا فقديما سبق إلى الإسلام قوم، ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلا فضلهم رسول الله بالقسم، ولا آثر بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة بأعمالهم وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر، رحم الله امرئً رأى حقاً فأعان عليه، ورأى جوراً فردّه، وكان عونا للحق على من خالفه).
قام طلحة والزبير وانصرفا من عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وهما مغضبان ساخطان، وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما من رأيه وبعد يومين جاءا واستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا أمير المؤمنين: قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة، وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا.
فقال أمير المؤمنين: قد عرفتما مالي بـ(ينبع) فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر.
فقالا: لا حاجة لنا في مالك بـ(ينبغ) فقال أمير المؤمنين: ما أصنع؟ فقالا: اعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه كفاية.
فقال أمير المؤمنين: سبحان الله وأي يد لي في بيت مال المسلمين؟ وأنا خازنهم أمين لهم، فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك من الناس ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت، وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم؟ ولكني أبدي لكما عذراً، فقالا: ما كنا بالذي نكلفك ذلك، ولو كلفناك لما أجابك المسلمون.
فقال أمير المؤمنين: فما أصنع؟ فقالا: سمعنا ما عندك.
ثم حرج الرجلان من دار أمير المؤمنين، وقد يئسا من بيت المال، فجعلا يفكران في كيفية الخروج إلى مكة، والالتحاق بعائشة، إلى أن صار رأيهما على هذا وجاءا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقت خلوته وقالا: قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة، لأنا بعيدا العهد بها.
فأذن لنا فيها .
فنظر أمير المؤمنين في وجهيهما، وقرأ الغدر من فلتات لسانهما ودوران عيونهما، وقد احمر وجهه ولاح الغضب فيه فقال: والله ما تريدان العمرة، ولكنكما تريدان الغدرة، وإنكما تريدان البصرة.
فقال الرجلان: اللهم غفراً، ما نريد إلا العمرة.
فقال أمير المؤمنين: احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين، ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة.
فحلفا بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فخرج الرجلان من عنده، فلقيهما ابن عباس سائلاً: أذن لكما أمير المؤمنين؟ فقالا: نعم.
ودخل ابن عباس على الإمام فابتدأ الإمام (عليه السلام) قائلاً: يا ابن عباس: أعندك الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة والزبير.
فقال أمير المؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً ـ وبعد هنيئة ـ قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي، فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وكفيت المؤمنين شرهما؟ فقال أمير المؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدا؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا والله، لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل، ولا ابتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مناهما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي وبغيهما علي.
خرج الرجلان من المدينة متوجهين إلى مكة، فوجدا بني أمية قد أحاطوا بعائشة، ولحق بها جماعة من منافقي قريش، ولحق بها عبد الله بن عمر بن الخطاب وأخوه عبيد الله ومروان بن الحكم وأولاد عثمان وعبيده وخاصته من بني أمية، وجعلوا عائشة ملجأ لهم فيما دبروه من كيد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصار كل من يبغض علياً أو يكرهه أو يحسده أو يخاف منه استيفاء الحقوق منه، يلتحق بهذه الجماعة، وعائشة تنعى عثمان وتبرأ من قاتله وتحرض الناس على عداوة أمير المؤمنين، وتظهر بأن عليا قتل عثمان ظلماً.
وكانت عائشة لما وصلت إلى مكة، وأدت مناسك الحج، ولما فرغت بلغها خبر قتل عثمان استبشرت وقالت للناعي: قتلته أعماله، إنه أحرق كتاب الله، وأمات سنة رسول الله فقتله الله، ومن بايع الناس؟ فقال الناعي: لم أبرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبيد الله نعاجا لعثمان، وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شك أن الناس بايعوه.
فقالت عائشة ـ وهي فرحانة ـ : بعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الأصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عم! لله أبوك يا طلحة، أما إنهم وجدوا طلحة لها كفواً، لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع أحنوها لا بل دغدغوها! وجدوك لها محسنا ولها كافيا، شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي، لأتوجه إلى منزلي.
سارت عائشة حتى إذا وصلت إلى موضع يقال له: (شرفاء) لقيها رجل يقال له: عبيد بن أم كلاب، فسألته عائشة: ما الخبر؟ فقال الرجل: قتل عثمان.
فقالت عائشة قتل نعثل!!! أخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال الرجل: لما أحاط الناس بالدار، رأيت طلحة بن عبيد الله قد غلب على الأمر، واتخذ مفاتيح على بيوت الأموال والخزائن، وتهيأ ليبايع له، فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب، ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره، وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر حتى إذا أتوا علياً وهو في بيت سكن فيه فقالوا له: بايعنا على الطاعة لك، وكان علي (عليه السلام) يتفكر ساعة.
فقال الأشتر: يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.
وكان في الجماعة طلحة والزبير، فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي بن أبي طالب كلام قبل ذلك، فقام طلحة والزبير فبايعا، وأنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته.
ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر، فتكلم بكلام لا أحفظ إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد، فكلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم.
فقالت عائشة: لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا!! أنظر ماذا تقول؟ فقال الرجل: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين.
فقالت عائشة: إنا لله، أكره والله الرجل، وغصب علي بن أبي طالب أمرهم، وقتل خليفة الله مظلوما! ردوا بغالي ردوا بغالي!! فقال الرجل: ما شأنك يا أم المؤمنين؟ والله ما أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها من علي، ولا أحق، ولا أرى له نظيراً فلماذا تكرهين؟.
عائشة لا ترد جواباً، وعزمت على الرجوع إلى مكة، وفي طريقها رآها قيس بن حازم فقالت عائشة تخاطب نفسها: قتلوا ابن عفان مظلوما.
فقال قيس: يا أم المؤمنين ألم أسمعك آنفا تقولين: أبعده الله؟ وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه، وأقبحهم فيه قولا.
فقالت عائشة: لقد كان ذلك، ولكن نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه.
فقال عبيد بن أم كلاب:

فمنك البداءة ومـــنك الغير ومنك الريــاح ومنك المطر


وأنت أمرت بقتل الإمـــــاموقلـــــــت لـــنا: إنه قد كفر


فهبنا أطعناك فــــــــي قتلهوقاتله عــــــــــندنا من أمر


ولم يسقط السقف من فوقناولم ينكسف شمسنا والقمر


وقد بايع الناس ذا ارتـــداءيزيل الشـــــبا ويقيم الصعر


وتلبس للحــــــرب أوزارهاوما من وفى مثل من قد غدر

وصلت عائشة إلى مكة، وجاءها رجل يقال له: يعلى بن منبه، وكان من بني أمية وشيعة عثمان وقال لها: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله.
فقالت عائشة: برأت إلى الله ممن قتله.
فقال الرجل: ألآن أظهري البراءة ثانيا من قاتله، فخرجت إلى المسجد، فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان، وهنا وصل خبر عائشة إلى طلحة والزبير وهما في المدينة، فكتبا إليها كتاباً مع ابن أختها عبد الله بن الزبير وكان مضمون الكتاب (خذ لي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان).
قرأت عائشة ذلك الكتاب وكشفت عما في ضميرها وجعلت تطلب بدم عثمان وجاءت ووقفت عند الحجر الأسود وقالت: أيها الناس: إن الغوغاء (السفلة) من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل فقتلوه ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال الأحداث، وقد استعمل أمثالهم من قبله، ومواضع الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزل عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام! والله، لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! والله، لو أن الذي اعتدوا عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبئه، والثوب من درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.
فتقدم عبد الله بن عامر الحضرمي ـ وكان عامل عثمان على مكة ـ وقال: أنا أول طالب بدمه.
فكان أول مجيب.
فتبعه بنو أمية، وكانوا قد هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة فرفعوا رؤوسهم، فكان أول ما تكلموا في الحجاز.
ولما وصل طلحة والزبير إلى مكة أرسلا عبد الله بن الزبير إلى عائشة يطلبان منها الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان!! امتنعت عائشة من الإجابة لكنها ذهبت إلى أم سلمة تستشيرها في الخروج، ولما دخلت على أم سلمة ونعت إليها عثمان وأنه قتل مظلوما، صرخت أم سلمة صرخة وهي متعجبة من كلام عائشة وقالت: يا عائشة بالأمس كنت تشهدين عليه بالكفر وهو اليوم أمير المؤمنين قتل مظلوما؟؟ ثم إن عائشة ذكرت لأم سلمة عزمها على الخروج إلى البصرة للطلب بدم عثمان وطلبت من أم سلمة أن ترافقها وتشاركها في تلك النهضة!! فجعلت أم سلمة تعاتب عائشة على تحريضها الناس بقتل عثمان ثم الطلب بدمه مع العلم أن عثمان من بني عبد مناف وعائشة امرأة من تيم بن مرة، وليس بينهما قرابة، ثم ذكرت أم سلمة شيئا من فضائل علي وأنه لا ينبغي لأحد أن يحارب عليا، ووعظتها وذكرتها بما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل علي (عليه السلام) وذكرتها بحديث النبي (صلّى الله عليه وآله) يوم قال: أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب فتذكرت عائشة كل ذلك وقنعت بكلام أم سلمة ولكن التأثير كان مؤقتا، ثم عزمت على السفر إلى البصرة.
وأما يعلى بن منبه فقد اشترى أربعمائة بعير ونادى: أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلي جهازه.
ووصل الخبر إلى أم سلمة فقالت لعائشة: لقد وعظتك فلم تتعظي..ثم حذرتها عن تلك الفكرة وذكرت لها بأنها تهتك حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأنها زوجته وعرضه إلى آخر كلامها.
وخرجت عائشة بالجيش نحو البصرة وفي أثناء الطريق وصلوا إلى ماء الحوأب فنبحت الكلاب وقال قائل: ما أكثر كلاب الحوأب وما أشد نباحها فأمسكت عائشة زمام بعيرها وصرخت: إنا لله وإنا إليه راجعون إني لهيه!! سمعت رسول الله ـ وعنده نساؤه ـ يقول: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثيرة، تنجو بعد ما كادت تقتل؟؟..ردوني، ردوني.
فأقبل جماعة وشهدوا وحلفوا أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت عائشة لوجهها نحو البصرة.
فوصل الخبر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأمر المنادي فنادى: الصلاة جامعة، اجتمع الناس في مسجد رسول الله في المدينة وصعد الإمام المنبر وخطب فيهم خطبة ذكر فيها الخلافة وأطوارها وأدوارها...
إلى أن قال: وبايعني هذان الرجلان ـ طلحة والزبير ـ في أول من بايع، وتعلمون ذلك، وقد نكثا غدرا، ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم.
أللهم: فخذ بما عملا واحدة رابية، ولا تنعش لهما ضرعة، ولا تقلهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا، فإنهما يطلبان حقا تركاه، ودما سفكاه، أللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت ـ وقولك الحق ـ : (ثم بغى عليه لينصرنه الله ...) اللهم أنجز لي موعدي ولا تكلني إلى نفسي إنك على كل شيء قدير.
ثم استشار الإمام أصحابه، فقال عمار بن ياسر: الرأي عندي: أن تسير إلى الكوفة، فإن أهلها شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة وأشار عليه عباس أن يأمر أم سلمة لتخرج معه تقوية لجانبه فقال الإمام: أما أم سلمة فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما أن الرجلان إخراج عائشة!! وأشار عليه جماعة أن يعتزل الفتنة ويذهب إلى ماله بـ(ينبع) فلم يقبل منه وأخيرا نادى الإمام: تجهزوا للمسير، فإن طلحة والزبير نكثا البيعة ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة، وسفك دماء أهل القبلة ورفع يديه للدعاء قائلا: اللهم: إن هذين الرجلين قد بغيا علي، ونكثا عهدي، ونقضا عقدي، وشقياني بغير حق سومهما ذلك، اللهم حذهما بظلمهما وأظفرني بهما، وانصرني عليهما.
وجعل الإمام (عليه السلام) تمام بن العباس والياً على المدينة وخرج بمن معه إلى الربذة، وإذا بطلحة والزبير قد ارتحلوا منها.
فأرسل الإمام محمد بن أبي بكر ومحمد بن الحنفية إلى الكوفة ليستنفرا أهل الكوفة، وكان والي الكوفة ـ يومذاك ـ أبا موسى الأشعري وكان أبو موسى عثماني الهوى، منحرفا عن علي (عليه السلام).
وكانت عائشة قد كتبت كتابا إلى أبي موسى تأمره أن يخذل الناس عن نصرة الإمام، وقام أبو موسى بتلبية طلبها، فخطب فيهم وأمرهم أن يجتنبوا الفتنة ويبتعدوا عن سفك دماء المسلمين.
لم يستطع محمد بن الحنفية ومجمد بن أبي بكر مقاومة الأشعري فرجعا إلى الإمام، وكان الإمام قد كتب ـ قبل ذلك ـ كتابا إلى الأشعري يأمره أن يخرج لمؤازرة الإمام، ولكن الأشعري استمر على رأيه وامتنع عن البيعة، وأظهر العداء الكامن في صدره، فأخبروا الإمام بذلك.
فكتب الإمام كتابا إلى الأشعري فيه خبر عزله عن الحكم والتهديد إن لم يعتزل، وكتاباً آخر إلى أهل الكوفة يذكر لهم فيه عما جرى على عثمان، ثم ذكر بيعة الناس له ومن جملتهم طلحة والزبير، ثم نكثهما البيعة وخروجهما ضد الإمام (عليه السلام).
وقبل وصول هذين الكتابين كان الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) وعمار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد جاءوا إلى الكوفة وخطبوا في الناس الخطب المفصلة المطولة، يحثون الناس على نصرة الإمام.
فكان الأشعري يقوم ويخطب وينقض كلامهم ويخذل الناس ويأمرهم باعتزال الفتنة وعدم الخوض في المعركة.
وانقضت أيام وأيام والأمر هكذا في الكوفة وأمير المؤمنين ينتظر المدد وهو في أرض يقال لها: (ذو قار) واليوم يقال لها: (المقيرة) وهي قريب الناصرية في طريق البصرة.
وأخيرا خرج البطل الضرغام مالك الأشتر وأقبل إلى الكوفة ودخلها وهجم على دار الإمارة واستولى عليها، وأخرج غلمان أبي موسى منها.
كانت الحرب الباردة قائمة في المسجد بين الأشعري وبين أصحاب الإمام وإذا بغلمان الأشعري دخلوا المسجد، وهم ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر.
ودخل أصحاب الأشتر وصاحوا: أخرج من المسجد، يا ويلك أخرج الله روحك، إنك والله من المنافقين.
خرج أبو موسى معزولاً خائباً مخذولاً، وأراد الناس أن ينهبوا أمواله فمنعهم الأشتر.
وأقبل الأشتر فصعد المنبر وقال: وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا، وأعظمهم في الإسلام سهما،ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأفقه الناس في الدين، وأقرأهم كتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد استنفركم، فما تنتظرون؟ أسعيداً؟ أم الوليد؟ الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر؟ واستباح ما حرمه الله فيكم.
أي هذين الرجلين تريدون؟ قبح الله من له هذا الرأي!! فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم، ولا يختلف رجل له قوة، فو الله ما يدري رجل منكم ما يضره وما ينفعه، وإني لكم ناصح شفيق عليكم إن كنتم تعقلون، أو تبصرون.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

أصبحوا إن شاء الله غدا غادين مستعدين، وهذا وجهي إلى ما هناك بالوفاء.
ثم قام ابن عباس وعزل الأشعري عن الولاية وخلعه عنها، وجعل قرضة بن كعب، فلم يبرحوا من الكوفة حتى سيروا سبعة آلاف رجل والتحقوا بأمير المؤمنين في ذي قار.
والتحق به قبل ذلك ألفان من قبيلة طي، وخرج الإمام (عليه السلام) نحو البصرة.
وكانت عائشة وطلحة والزبير ومن معهم قد وصلوا إلى البصرة قبل ذلك، وتعجب الناس من قدومهم إلى البصرة للطلب بدم عثمان المقتول في المدينة.
وسمع عثمان بن حنيف (والي البصرة) بوصول القوم، فأرسل إليهم أبا الأسود الدؤلي وعمران بن حصين للتحقيق، فدخلا على عائشة وقالا لها: يا أم المؤمنين ما حملك على المسير؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ وأنت حبيبة رسول الله وقد أمرك أن تقري في بيتك؟ فجرى كلام وجدال طويل بين عائشة والرجلين، وكلما خوفاها من إراقة دماء المسلمين وإفساد الأمر قابلتهم بكل صلابة وحدة.
ودخلا على طلحة فلم يسمعا منه إلا الكلام القبيح والطرد، ثم السب لأمير المؤمنين (عليه السلام).
استعدت عائشة للحرب، وخرجت بمن معها إلى محلة في البصرة يقال لها (المربد) وخطبت في أهل البصرة خطبة فنعت عثمان وتأسفت على قتله ثم ذكرت عليا وبيعته وأفرطت في كلامها ثم طلبت من أهل البصرة نقض خلافة الإمام فصدقها ناس وكذبها ناس، واضطرب الناس بأقوالهم، واشتغلوا بالسب والشتم واللعن، وتوجهت عائشة إلى دار الإمارة وطلبوا من عثمان بن حنيف أن يسلم إليهم دار الإمارة فأبى عليهم، واشتعلت نار الحرب حتى الظهر وقتل في تلك الواقعة خمسمائة شيخ من بني عبد القيس من شيعة علي وأنصار عثمان بن حنيف سوى الجرحى، واستمرت الحرب في البصرة وكثر القتلى والجرحى، ودخل بعض الناس وقرروا الهدنة، فتم القرار على: أن تكون دار الإمارة والمسجد وبيوت المال تحت اختيار عثمان بن حنيف، وتكون البصرة تحت حيازة طلحة والزبير وعائشة، وكتبوا على هذه المصالحة كتابا وشهد الناس على ذلك، ولما أمن الناس واطمئنوا وألقوا سلاحهم أقبل طلحة والزبير وأصحابهما حتى أتوا دار الإمارة على حين غفلة وكان خمسون رجلا يحرسون بيوت الأموال وهم من شيعة علي أحاط الزبير بهؤلاء وقتل منهم أربعين رجلا صبرا ثم هجموا على عثمان بن حنيف فأوثقوه رباطا، وعمدوا إلى لحيته فنتفوا لحيته حتى لم يبق منها شعرة واحدة ونتفوا حاجبيه وأشفار عينيه وأوثقوه بالحديد.
وأصبح الصباح فجاء طلحة والزبير إلى المسجد الأعظم لأداء صلاة الصبح جماعة فأراد طلحة أن يتقدم ويصلي بالناس فدفعه الزبير، وأراد الزبير أن يصلي فمنعه طلحة، استمر النزاع والتدافع بين الإمامين!!! حتى كادت الشمس أن تطلع فصاح الناس: الله الله يا أصحاب رسول الله! في الصلاة نخاف فوتها!! فأمرت عائشة أن يصلي مروان بالناس وأخيرا تقدم ابن الزبير وصلى بالمسلمين.
انتشر خبر قتل الحرس وإلقاء القبض على عثمان، فأقبل حكيم بن جبلة إلى عشيرته فحثهم على النهوض وجاء طلحة والزبير وشبت النار مرة ثانية وقتل حكيم بن جبلة وأخوه وعدد من الناس، واستولى طلحة والزبير على بيوت الأموال ونصبا الأقفال على أبواب بيوت الأموال، فأمرت عائشة بختم بيت المال، وختم كل من طلحة والزبير وعائشة بختم على بيوت الأموال.
انقضت أيام وعائشة وطلحة والزبير يخطبون في الناس ويهيجونهم ويحذرونهم من علي (عليه السلام) وقد كان ينتهي كلامهم إلى ذم الإمام وسبه وأرسلت عائشة كتبا ورسائل إلى البلاد والأمصار كتبت فيها ما أرادت.
ووصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بجيشه الجرار إلى البصرة، ةبلغه الخبر عن المجزرة الرهيبة التي أقامها هؤلاء، فأرسل الإمام صعصعة بن صوحان للتفاهم أو لإتمام الحجة على عائشة والرجلين والتقى بهم صعصعة فلم يسمع منهم إلا التهديد والخشونة في الكلام وأرسل الإمام (عليه السلام) عبد الله بن عباس وأمره أن يلتقي بطلحة والزبير، فلم تنجح مذكرات ابن عباس معهما.
كان وصول الجيش العلوي إلى البصرة على أحسن هيئة وأجمل نظام وفيهم المشايخ من أهل بدر المهاجرين والأنصار، وقواد الجيش ومعهم الألوية والرايات، والمواكب يترى بعضها بعضا.
وفي الأخير: وصل موكب الإمام وهو موكب عظيم فيه خلق كثير عليهم السلاح والحديد، ومعهم الإمام وعليه الوقار والسكينة ينظر إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، والجنود خلفه كأن على رؤوسهم الطير، والإمام الحسن عن يمينه والإمام الحسين عن شماله، وابنه محمد بن الحنفية بين يديه ومعه الراية.
أمر الإمام (عليه السلام) ابن عباس أن يرجع ثانيا إلى عائشة ويذكر لها خروجها من بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويخوفها من الخلاف على الله، والتبرج الذي نهاها الله عنه...الخ.
دخل ابن عباس على عائشة وأدى رسالته وذكر فضل علي وسابقته ولكنها لم ترتدع ولم تقتنع ورجع ابن عباس إلى الزبير ووجده وحده وجعل يلين له الكلام ويخوفه من عواقب أعماله، ويلومه على إسراعه في الخلاف فجاء عبد الله بن الزبير، وكان شابا شرسا قليل الحياء متهورا، وقابل ابن عباس بكل صلافة وكانت المباحثات بلا جدوى ولا فائدة، واستعد الفريقان للحرب.
كان كعب بن سور سيد الأزد قد امتنع عن الخوض في المعركة فجاء طلحة والزبير إلى عائشة وطلبا منها أن تتوجه بنفسها إلى كعب وتطلب منه المؤازرة والتعاون معها، فأرسلت عائشة إليه تطلب منه الحضور فلم يجبها كعب، فركبت بغلا وأحاط بها نفر من أهل البصرة وسارت إلى كعب وسألته عن سبب امتناعه فقال: يا أماه لا حاجة لي في خوض هذه الفتنة.
فاستعبرت عائشة باكية وطلبت منه أن ينصرها، فرق لها كعب وأجابها وعلق المصحف في عنقه وخرج معها.
اشتركت العشائر والقبائل من المدينة إلى الكوفة إلى طي إلى أهل البصرة في نصرة الإمام.
وكان خطباء الفريقين يخطبون في قومهم ويحرضونهم على الحرب.
ساحة القتال:
كانت ساحة القتال في الخريبة، وهي ـ اليوم ـ بين الزبير والبصرة ويقال لها: (الخر) وهناك قبر طلحة.
اصطف الفريقان للقتال، وكتب كل منهما الكتائب وخرج علي (عليه السلام) وعليه عمامة سوداء وقميص ورداء وهو راكب على بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الشهباء.
وجاءت عائشة وهي في هودج على بعير وعن يمينها وشمالها طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير وخلفها الذين رافقوها من مكة وانضموا إليها في البصرة.
كان النشاط في أصحاب علي أكثر، وكانوا يريدون الهجوم على العدو، لكن الإمام كان يمنعهم ويقول لهم: لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم، فقام إليهم وقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا.
قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا.
قال فرغبة في دنيا أصبتها لي ولأهل بيتي دونكم، فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا:لا.
قال: فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث؟ إني ضربت الأمر أنفه وعينه ولم أجد إلا الكفر أو السيف، ثم التفت إلى أصحابه وقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون)(1).
ثم قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة واصطفى محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت هذه الآية، تم التفت إلى ابن عباس وقال له: امض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلى ما فيه.
جاء ابن عباس فبدأ بالزبير وقال له: إن أمير المؤمنين يقول ألم تبايعني طائعا؟ فبم تستحل دمي؟ وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه؟ فقال الزبير: ارجع إلى صاحبك، فإنا بايعنا كارهين وما لي حاجة في محاكمته.
انصرف ابن عباس إلى طلحة، فوجد فيه الاستعداد للشر والحرب، فقال له ابن عباس: والله ما أنصفتم رسول الله إذ حبستم نساءكم وأخرجتم حبيسة رسول الله؟! ونادى طلحة: ناجزوا القوم، فإنكم لا تقومون لحجاج ابن أبي طالب.
رجع ابن عباس وأخبره بالنتيجة السلبية وقال للإمام: ما تنتظر؟ والله لا يعطيك القوم إلا السيف، فأحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك.
فقال أمير المؤمنين: نستظهر بالله عليهم، وهناك خرج أمير المؤمنين بين الصفين ونادى بأعلى صوته: أين الزبير؟ فليخرج ثم نادى ثانيا، وكان طلحة والزبير واقفين أمام صفيهما، فخرج الزبير، وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه، فصاح به أصحابه يا أمير المؤمنين: أتخرج إلى الزبير ـ الناكث بيعته ـ وأنت حاسر؟ وهو على فرس شاكي السلاح، مدجج في الحديد وأنت بلا سلاح؟ فقال أمير المؤمنين: ليس علي منه بأس، إن علي منه جنة واقية، لن يستطيع أحد فرارا من أجله، وإني لا أموت، ولا أقتل إلا بيد أشقاها، كما عقر ناقة الله أشقى ثمود.
فخرج إليه الزبير فقال (عليه السلام): أين طلحة؟ ليخرج.
فخرج طلحة.
وقربا منه (عليه السلام)، حتى اختلفت أعناق دابتهما، فقال أمير المؤمنين للزبير: ما حملك على ما صنعت؟ فقال الزبير: الطلب بدم عثمان.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك أن تقيد من نفسك.
ولكن أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل الفرقان على نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله): أما تذكر يوما قال لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يا زبير: أتحب عليا؟ فقلت: وما يمنعني عن حبه وهو ابن خالي؟ فقال لك رسول الله: أما أنت فستخرج عليه يوما وأنت له ظالم؟ فقال له الزبير: اللهم بلى قد كان ذلك.
فقال أمير المؤمنين: فأنشدك الله الذي أنزل الفرقان على نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله) أما تذكر يوما جاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من عند ابن عوف، وأنت معه، وهو آخذ بيدك، فاستقبلته أنا فسلمت عليه فضحك في وجهي، فضحكت أنا إليه، فقلت أنت: لايدع ابن أبي طالب زهوه أبدا.
فقال لك النبي (صلّى الله عليه وآله): مهلا يا زبير، فليس به زهو، ولتخرجن عليه يوما وأنت ظالم له؟! فقال الزبير: الهم بلى، ولكن نسيت، فأنا إذا ذكرتني ذلك فلأنصرفن عنك ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك.
ثم التفت إليهما معا وقال: نشدتكما الله أتعلمان وأولوا العلم من أصحاب محمد وعائشة بنت أبي بكر: أن أصحاب الجمل، وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد (صلّى الله عليه وآله) وقد خاب من افترى؟ فقال الزبير: كيف نكون ملعونين ونحن من أهل الجنة؟ فقال أمير المؤمنين: لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم.
فقال الزبير: أما سمعت رسول الله يقول يوم أحد: أوجب طلحة الجنة؟ ومن أراد أن ينظر إلى الشهيد يمشي على الأرض حيا فلينظر إلى طلحة؟ أوما سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: عشرة من قريش في الجنة؟ فقال أمير المؤمنين: فسمهم.
فجعل الزبير يعد تسعة منهم، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل.
فقال أمير المؤمنين: عددت تسعة منهم فمن العاشر؟ فقال الزبير: أنت.
فقال أمير المؤمنين: أما أنت فقد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فإني به لمن الجاحدين،والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد عهد النبي الأمي إلي أن بعض من سميت في تابوت في جب في أسفل درك من جهنم، وفي نسخة: إن في جهنم جبا، فيه ستة من الأولين وستة من الآخرين، على رأس ذلك الجب صخرة، إذا أراد الله تعالى أن يسعر جهنم على أهلها أمر بتلك الصخرة فرفعت، وإن في ذلك الجب من سميت، وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي بيدك، وإلا فأظفرني الله بك وبأصحابك.
فقال أمير المؤمنين: دع هذا، أفلست بايعتني طائعا؟ فقال الزبير: بلى.
فقال أمير المؤمنين: أفوجدت مني حدثا يوجب مفارقتي؟ فسكت الزبير ثم قال: لا جرم والله لأقاتلنك! ثم التفت (عليه السلام) إلى طلحة وقال:يا طلحة: معكما نساؤكما؟ فقال طلحة: لا.
فقال أمير المؤمنين: عمدتما إلى امرأة موضعها في كتاب الله القعود في بيتها، فأبرزتماها! وصنتما حلائلكما في الخيام والحجال؟ ما أنصفتما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أمر الله أن لا يكلمن إلا من وراء حجاب.
أخبرني عن صلاة ابن الزبير بكما، أما يرضى أحدكما بصاحبه؟ أخبرني عن دعائكما الأعراب إلى قتالي؟ ما يحملكما على ذلك؟ فقال طلحة: يا هذا، كنا في الشورى ستة، مات منا واحد، وقتل آخر، فنحن اليوم أربعة، كلنا لك كاره.
فقال أمير المؤمنين: ليس ذلك علي، قد كنا في الشورى والأمر في يد غيرنا، وهو اليوم في يدي أرأيت لو أردت بعد ما بايعت عثمان أن أرجُ هذا الأمر شورى أكان ذلك لي؟ فقال طلحة: لا.
فقال أمير المؤمنين: ولم؟ فقال طلحة: لأنك بايعت عثمان طائعا.
فقال أمير المؤمنين: وكيف ذلك؟ والأنصار معهم السيوف مخترطة، يقولون: لئن زغتم وبايعتم واحدا منكم، وإلا ضربنا أعناقكم أجمعين؟؟ فهل قال لك ولأصحابك أحد شيئا من هذا وقت ما بايعتماني؟ وحجتي في الاستكراه في البيعة أوضح من حجتك وقد بايعتني أنت وأصحابك طائعين غير مكرهين، وكنتما أول من فعل ذلك ولم يقل أحد: لتبايعان أو لنقتلكما؟ ثم انصرف الرجلان إلى صفهما، فأراد الزبير الخروج من الحرب، والانصراف إلى البصرة، فقال له طلحة: ما لك يا زبير؟ ما لك تنصرف عنا؟ سحرك ابن أبي طالب؟ فقال الزبير: لا، ولكن ذكرني ما كان أنسانيه الدهر، واحتج علي ببيعتي له.
فقال طلحة: لا، ولكن جبنت وانتفخ سحرك!! فقال الزبير: لم أجبن، ولكن أذكرت فذكرت.
فقالت عائشة: ما ورائك يا أبا عبد الله؟ فقال الزبير: والله ورائي؟ إني ما وقفت موقفا في شرك ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة وأنا اليوم على شك من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي.
فقالت عائشة: لا والله، بل خفت سيوف ابن أبي طالب، أما إنها طوال حداد، تحملها سواعد أمجاد، ولئن خفتها فلقد خافها الرجال من قبلك.
فقال عبد الله بن الزبير: جبنا جبنا!! فقال الزبير: يا بني قد علم الناس إني لست بجبان، ولكن ذكرني علي شيئا سمعته من رسول الله، فحلفت أن لا أقاتله.
فقال عبد الله بن الزبير: يا أبة أجئت بهذين العسكرين العظيمين حتى إذا اصطفا للحرب، قلت: أتركهما وأنصرف فما تقول قريش غدا بالمدينة؟ الله الله يا أبة: لا تشمت بنا الأعداء، ولا تشن نفسك بالهزيمة قبل القتال.
فقال الزبير: ما أصنع يا بني وقد حلفت أن لا أقاتله؟ فقال عبد الله بن الزبير:كفر عن يمينك، ولا تفسد أمرنا!! فقال الزبير: عبدي مكحول حر لوجه الله، كفارة ليميني!! ثم عاد معهم للقتال.
فعند ذلك أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) المصحف بيده، وطلب من يقرأ عليهم هذه الآية: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)(2).
فقام غلام حدث السن وأخذ المصحف ووقف أمام الصفوف وقال هذا كتاب الله، وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه، فأمرت عائشة بإعدامه فقطعوا يديه ثم أحاطوا به وطعنوه بالرماح من جانب وكانت أمه واقفة تنظر فصاحت وطرحت نفسها على ولدها.
كان الإمام ينتظر وقت الظهر لنزول الملائكة وكان يقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وكفكم عنهم حجة أخرى فإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، فإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا من أموالهم شيئا ولا تهيجوا امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعفاء القوى والأنفس و العقول...الخ.
كانت السهام تترى على الإمام وأصحابه كالمطر!! فصاح الناس: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلون رجلا رجلا والله قد أعذرت أن كنت تريد الإعذار!!! هناك دعا الإمام ابنه محمد بن الحنفية فأعطاه الراية وهي راية سوداء كبيرة وهي راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال (عليه السلام) له: يا بني هذه الراية ما ردت قط ولا ترد قط!! ثم لبس الإمام درع رسول الله، وحزم بطنه بعصابة أسفل من سرته، ثم قال الإمام لولده محمد بن الحنفية: يا أبا القاسم قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوي! وذلك أني لم أبارز أحدا إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالى ـ بظهورك عليهم! وأعطاه تعاليم حربية.
وزحف أصحاب الجمل نحو معسكر الإمام فصاح الإمام بابنه محمد: امض، فمضى.
وتبعه أصحابه واشتعل القتال.
وأقبل الإمام يهرول وبيده السيف يصعد وينزل فتطير الرؤوس وتطيح الأيدي ولا يتلطخ السيف بالدم لسرعة اليد وسبق السيف الدم!! وزحف الجيش خلفه.
وحمل عمار بن ياسر على الميسرة، ومالك الأشتر على الميمنة وحملوا حملة رجل واحد، ونادى الإمام: عليكم بالسيوف.
فجعلوا يضربون بالسيوف على الرؤوس ثم نادى المنادي: عليكم بالأقدام.
كان للفريقين أراجيز كثيرة جداً مذكورة في محلها وقد ذكرنا شيئاً منها في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة.
وقتل طلحة في ذلك اليوم ولم يعرف قاتله، قيل: إن مروان بن الحكم رماه بسهم فقتله يطلب بذلك ثأر عثمان وكان أهل البصرة كل من أراد منهم القتال أخذ بخطام الجمل وارتجز وقاتل حتى قتل.
فخرج كعب بن سور فأخذ بخطام الجمل وهو يرتجز ويقول:

يا معشر الأزد علـــيكم أمكمفإنها صـــــــلاتكم وصومكم


والنعمة العظمى التي تعمكمفأحضـــروها جدكم وحزمكم


لا يغلبن ســــم العدو سمكمإن العـــــــدو إن علاكم رمكم


وخصكم بجوره وعـــــمكملا تفضحوا اليوم فداكم قومكم

فقاتل حتى قتل.
فخرج رجل آخر فأخذ بخطام الجمل وقال: يا أم يا أم خلا مني الوطن لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن من هيهنا محشر عوف بن قطن إن فاتنا اليوم علي فالغبن أو فاتنا ابناه حسين وحسن إذن أمت بطول هم وحزن.
وغير ذلك من الأراجيز المذكورة في كتب التاريخ، واشتعلت النار، واستعر القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا فصاح علي (عليه السلام) ما أراه بقاتلكم غير هذا الهودج، إعقروا الجمل أو عرقبوه، فإنه شيطان، أو: اعقروه وإلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوى هذا البعير إلى الأرض.
فضرب عجز الجمل فوقع لجنبه، وضرب بجرانه الأرض وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه فما هو إلا أن صرع حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب، وسقط الهودج، فصاح الإمام إقطعوا البطان.
فقطع محمد بن الحنفية البطان وأخرج الهودج فقالت عائشة من أنت؟ فقال محمد: أبغض أهلك إليك.
فقالت عائشة: ابن الخثعمية؟ فقال محمد: نعم، ولم تكن دون أمهاتك! فقالت عائشة: لعمري بل هي شريفة، دع عنك هذا، الحمد لله الذي سلمك.
فقال محمد: قد كان ذلك ما تكرهين.
فقالت عائشة: يا أخي لو كرهته ما قلت ما قلت فقال محمد: كنت تحبين الظفر وأني قتلت؟ فقالت عائشة: قد كنت أحب ذلك ولكنه لما صرنا إلى ما صرنا إليه أحببت سلامتك لقرابتي منك فاكفف، ولا تعقب الأمور، وخذ الظاهر ولا تكن لومة ولا عذلة، فإن أباك لم يكن لومة ولا عذلة.
وجاء علي فقرع الهودج برمحه وقال: يا شقيراء بهذا أوصاك رسول الله؟ فقلت عائشة: يا ابن أبي طالب ملكت فاصفح وظفرت فاسجح.
فقال أمير المؤمنين والله ما أدري متى أشتفي غيظي؟ أحين أقدر على الانتقام فيقال لي: لو عفوت أم حين أعجز من الانتقام فيقال لي: لو صبرت!! بلى أصبر فإن لكل شيء زكاة، وزكاة القدرة والمكنة: العفو والصفح.
ثم التفت (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر وقال: شأنك بأختك فلا يدنو منها أحد سواك.
فأمر (عليه السلام) فاحتملت عائشة بهودجها إلى دار عبد الله بن خلف في البصرة، وأمر بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح وقال (عليه السلام) إشارة إلى الجمل: لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم تلى: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا)(3).
ركبت عائشة وهي تقول: فخرتم وغلبتم، وكان أمر الله قدرا مقدورا، ونادى أمير المؤمنين: يا محمد بن أبي بكر سلها هل وصل إليها شيء من الرماح و السهام؟ فسألها فقالت: نعم وصل إلي سهم، خدش رأسي وسلمت من غيره، الله بيني وبينكم.
فقال محمد: والله ليحكمن عليك يوم القيامة ما كان بينك وبين أمير المؤمنين حين تخرجين عليه؟ وتؤلبين الناس على قتاله؟ وتنبذين كتاب الله وراء ظهرك؟ فقالت عائشة: دعنا يا محمد وقل لصاحبك يحرسني.
فأمر الإمام أن يحملها أخوها إلى دار ابن خلف في البصرة، فحملها وهي لا تفتر عن سب الإمام وسب أخيها محمد بن أبي بكر والترحم على أصحاب الجمل.
ومر الإمام على القتلى وجعل يخاطبهم ويعاتبهم، وخاطب كعبا وطلحة بعد قتلهما فقيل له: أتكلم هؤلاء بعد القتل؟ فقال: والله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله يوم بدر.
ثم نادى منادي الإمام: من أحب أن يواري قتيله فليواره.
وأمر أصحابه وقال لهم: قتلانا في ثيابهم التي قتلوا فيها فإنهم يحشرون على الشهادة وإني لشاهد لهم بالوفاء.
فجاء ابن عباس يطلب الأمان لمروان بن الحكم فأمره الإمام بإحضار مروان فلما حضر قال له الإمام أتبايع؟ فقال مروان: نعم وفي النفس ما فيها!! فقال الإمام: الله أعلم بما في القلوب.
فلما بسط يده ليبايعه أخذ كفه من كف مروان وجذبها، وقال: لا حاجة لي فيها، إنها كف يهودية، لو بايعني بيده عشرين مرة لنكث بإسته، ثم قال: هيه يا بن الحكم: خفت على رأسك أن تقع في هذه المعمعة؟ كلا والله حتى يخرج من صلبك فلان وفلان يسومون هذه الأمة خسفا ويسقونهم كأسا مصبرة.
أما الزبير فإنه خرج من المعركة ووصل إلى منطقة في ضواحي البصرة يقال لها (وادي السباع) فقتله عمر بن جرموز وأخذ رأسه وسيفه وخاتمه وجاء بها إلى معسكر الإمام واستأذن ودخل وإذا به يرى القائد الأعلى للمسلمين جالسا وبين يديه ترس عليه أقراص من الطعام الشعير، فسلم عليه، وهنأه بالفتح عن الأحنف، لأن الحرب كانت قد وضعت أوزارها حينئذ، وقال: أنا رسول الأحنف، وقد قتلت الزبير، وهذا رأسه وسيفه، فألقاهما بين يديه، فقال (عليه السلام) كيف قتلته؟ وما كان من أمره؟ فحدثنا كيف كان صنعك به؟ فقص عليه ما جرى فقال: ناولني سيفه.
فناوله سيفه، فاستلّه وهزه.
وقال: سيف أعرفه، سيف طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
ثم التفت علي (عليه السلام) إلى ابن جرموز قائلاً: والله ما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما، ولكن الحين ومصارع السوء.
ثم تفرس في وجه الزبير وقال: لقد كان لك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) صحبة ومنه قرابة، ولكن دخل الشيطان منخرك فأوردك هذا المورد.
فقال ابن جرموز: الجائزة يا أمير المؤمنين.
فقال (عليه السلام): أما إني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار.
وقبض أمير المؤمنين (عليه السلام) ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع فقسمه بين أصحابه، فقال بعض أصحابه: أقسم بيننا أهل البصرة، فاجعلهم رقيقا.
فقال: لا.
فقالوا: كيف تحل لنا دماؤهم وتحرم علينا سبيهم؟ فقال: كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام؟ وأما ما جلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شيء منه.
فلما أكثروا عليه قال: فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة!! فقالوا: نستغفر الله يا أمير المؤمنين ثم انصرفوا.
فلما دخل (عليه السلام) بيت المال في نفر من المهاجرين والأنصار، ونظر إلى كثرة ما فيه قال: غري غيري: مرارا، ثم نظر إلى المال، وصعد وصوب بصره، وقال: أقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة، فقسم بينهم، فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره، وكان مقدار المال ستة ملايين، وعدد أصحابه اثني عشر ألف رجل.
وأخذ هو خمسمائة درهم كواحد منهم، فجاءه رجل لم يحضر الواقعة فقال: يا أمير المؤمنين: كنت شاهدا بقلبي، وإن غاب عنك جسمي فأعطني من الفيء شيئا، فدفع إليه الذي أخذه لنفسه، ولم يصب من الفيء شيئا.
وفي رواية أخرى: جاء رجل فقال: إن اسمي سقط من كتابك فقال (عليه السلام): ردوها عليه، ثم قال: الحمد لله الذي لم يصل إلي من هذا المال شيء.
ولما فرغ من تقسيم بيت المال قام خطيبا في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إني أحمد الله على نعمة، قتل طلحة والزبير وأيم الله لو كانت عائشة طلبت حقا، وهانت باطلا، لكان لها في بيتها مأوى، وما فرض الله عليها الجهاد، وأن أول خطأها في نفسها، وما كانت والله على القوم أشأم من ناقة الصخرة، وما ازداد عدوكم إلا حقدا وما زادهم الشيطان إلا طغيانا ولقد جاءوا مبطلين وأدبروا ظالمين إن إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا يرجون مغفرة الله، وإننا لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل ويجمعنا الله وإياهم يوم الفصل واستغفر الله لي ولكم.
أرسل أمير المؤمنين (عليه السلام) ابن عباس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل، وقلة العرجة ـ الإقامة ـ فجاءها ابن عباس وهي في قصر بني خلف في جانب البصرة، فطلب الإذن عليها فلم تأذن له، فجاء ابن عباس ودخل عليها بغير إذنها فإذا بيت قفار لم يعد له فيه مجلس، فإذا هي من وراء سترين، نظر ابن عباس إلى ما في الحجرة، فوقع بصره على طنفسة على رحل، فمد الطنفسة وجلس عليها، فقالت عائشة من وراء الستر يا بن عباس أخطأت السنة: دخلت بيتنا بغير إذننا، وجلست على متاعنا بغير إذننا‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.
فقال ابن عباس: نحن أولى بالسنة منك، ونحن علمناك السنة وإنما بيتك الذي خلفك فيه رسول الله فخرجت منه ظالمة لنفسك، غاشة لدينك، عاتية على ربك، عاصية لرسول الله، فإذا رجعت إلى بيتك لم ندخله إلا بإذنك، ولم نجلس على متاعك إلا بأمرك، إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعث يأمرك بالرحيل إلى المدينة وقلة العرجة.
فقالت عائشة: رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب.
فقال ابن عباس: هذا والله أمير المؤمنين، وإن تربدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطس، أما والله لهو أمير المؤمنين، وأمس برسول الله رحما، وأقرب قرابة، وأقدم سبقا وأكثر علما، وأعلى منارا، وأكثر آثارا من أبيك ومن عمر.
فقالت عائشة: أبيت ذلك.
فقال ابن عباس: أما والله إن كان إباؤك ـ عدم قبولك ـ فيه لقصير المدة، عظيم التبعة، ظاهر الشؤم، بين النكر، وما كان إباؤك فيه إلا حلب شاة حتى صرت ما تأمرين ولا تنهين ولا تعرفين ولا تضعين، وما كان مثلك إلا كمثل ابن الحضرمي ابن يحمان أخي بني أسد حيث يقول:

ما ذاك ‍‍‍‍‍‍‍إهداء القصائد بينناشتم الصديق وكثرة الألقاب


حتى تركتهم كأن قلــــوبهمفـــي كل مجمعة طنين ذباب

سمعت عائشة فأراقت دمعتها، وبدا عويلها ثم قالت: أخرج والله عنكم، فما في الأرض بلد أبغض إلي من بلد تكونون فيه.
فقال ابن عباس: فلم؟ والله ماذا بلاؤنا عندك، ولا يضعنا إليك، إنا جعلناك للمؤمنين أماً، وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباك صديقا وهو ابن أبي قحافة: حامل قصاع الودك لابن جذعان إلى أضيافه.
فقالت عائشة: يا بن عباس تمنّون علي برسول الله؟!
‍فقال ابن عباس: ولم لا نمن عليك بمن لو كان منك قلامة منه مننتنا به؟ونحن لحمه ودمه ومنه، وما أنت إلا حشية من حشايا تسع، خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا ولا بأحسنهن وجها ولا بأرشحهن عرقا، ولا بأنضرهن ورقاً، ولا بأضهرهن أصلا،ً صرت تأمرين فتطاعين وتدعين فتجابين وما مثلك إلا كما قال أخو بني فهر:

مننت على قومي فابــــدوا عداوةفقــــــلت لهم: كفوا العداوة والشكرا


ففيه رضا من مثلـــــــكم لصديقكموأحجى بكم أن تجمعوا البغي والكفرا

ثم نهض ابن عباس وأتى أمير المؤمنين فأخبره بمقالتها، وما رد عليها فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أما لو كنت أعلم بك حيث بعثتك.
استمرت الحرب من الزوال إلى الغروب، وقيل استمرت ثلاثة أيام.
وعلى كل فقد بلغ عدد القتلى خمسة وعشرين ألف قتيل.
ستة آلاف من أصحاب الإمام والباقون من أصحاب الجمل، وأما الأيدي والأرجل التي قطعت فقد بلغ عددها أربعة عشر ألفا.
هكذا تروت الأرض بالدماء، وهكذا زهقت الأرواح ولا تسأل عن الجرحى ولا تسأل عن أرامل القتلى ويتاماهم.
هذا والكلام طويل وفي هذا المقدار كفاية.

(1) سورة التوبة، الآية: 12.
(2) سورة الحجرات، الآية: 9.
(3) سورة طه، الآية: 97.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) في صفين
بسم الله الرحمن الرحيم
حديثنا الليلة حول الحرب الثانية التي وقعت في أيام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي واقعة صفين، تلك المجزرة الرهيبة، التي تقشعر الجلود من استماع الحوادث، والفجائع التي وقعت في تلك المعركة، وضياع الحق وغلبة الباطل عن طريق الخدعة والغدر والمكر والتزوير، وتتجلى صحيفة أمير المؤمنين نقية بيضاء متلألئة، وتتمثل فيها العدالة والتقوى والورع، نذكرها في صورة موجزة: لما انتهت غزوة الجمل في البصرة ووضعت الحرب أوزارها، ورجع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة مظفرا منصورا، بعث كتابا إلى معاوية يأمره بأخذ البيعة له (عليه السلام)، وبعث الكتاب بيد رجل إلى الشام، وجمع معاوية بعض مشاهير الشام وأمرهم بإشاعة هذا الخبر وإذاعته فيما بين الناس: (أن عليا قتل عثمان، ومعاوية ولي دم عثمان، فيجب الطلب بثأر عثمان ودمه)9 وأعانه على هذه الفكرة عمرو بن العاص واشترط على معاوية أنه إذا بايعه وأعانه على حرب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخرجوا مصر من تحت سلطة أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون عمرو بن العاص والياً وأميراً على مصر، فبايعه على ذلك وبايع أهل الشام معاوية أيضا.
فنهض معاوية بجيشه الجرار وأقبل إلى (صفين)، وهو اسم أرض كبيرة واسعة، مستعداً للقتال ونهض الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعسكره إلى ذلك المكان وبعد أيام من وصوله استعرت نار الحرب فيما بين الفريقين وجرت أنهار من الدماء، وتكونت أتلال وجبال من الأجساد المضرجة من القتلى من الفريقين.
فقد وصل أبو الأعور السلمي وهو على مقدمة جيش معاوية إلى منطقة صفين، الكائنة بالقرب من مدينة الرقة في سوريا، ونزلا منزلا اختاروه واسعا واستولوا على شريعة الفرات.
فوصل مالك الأشتر ومعه أربعة آلاف رجل وهم مقدمة الجيش العلوي، فاصطدموا بأبي الأعور وأزالوهم عن الفرات، فوصل معاوية مع الجيش الجرار، فانسحب الأشتر عن الفرات، فاستولى معاوية وأصحابه على شاطئ الفرات وصار الماء لديهم فوصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه مائة ألف إنسان ويزيدون، فأمر الإمام الجيش أن ينزلوا ويضعوا أثقالهم وأحمالهم، وتسرع بعضهم إلى ناحية معاوية واقتتلوا قتالا قليلا.
وتقدم طائفة من الناس إلى الفرات ليستقوا فمنعهم أهل الشام فأرسل الإمام (عليه السلام) صعصعة بن صوحان إلى معاوية رسولا يعاتبه على تسرعه بالاستيلاء على الماء وجرى هنا كلام طويل.
كان عمرو بن العاص ينصح معاوية ويأمره أن يفسح المجال لأصحاب علي ليشربوا، ولكن غرور معاوية منعه عن قبول النصيحة، وخاصة بعد أن استولى أصحابه استيلاء تاما على الفرات، حتى قال معاوية: يا أهل الشام هذا أول الظفر، لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه حتى يقتلوا بأجمعهم.
وتباشر أهل الشام من هذه البشرى السارة وهي التغلب على العدو عن طريق حبس الماء، فقام رجل من أهل الشام همداني متعبد وقال: يا معاوية سبحان الله سبقتم القوم إلى الفرات وتمنعونهم الماء؟ أما الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه، أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟؟ هذا والله أول الجور.
فأغلط له معاوية في الكلام وقال لعمرو: اكفني صديقك، فأتاه عمرو وقابله بالكلام الخشن، فسار الهمذاني في سواد الليل حتى لحق بعلي (عليه السلام).
ومكث أصحاب علي (عليه السلام) يوما وليلة بغير ماء، واغتم الإمام (عليه السلام) من عطش أصحابه، لأنهم باتوا في البر عطاشا، قد حيل بينهم وبين الورود إلى الماء، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إن عليا لا يموت عطشا، هو وتسعون من أهل العراق وسيوفهم على عواتقهم، ولكن دعهم يشربون وتشرب.
فقال معاوية: لا والله أو يموتون عطشا كما مات عثما‍‍‍‍‍‍‍ن.
وخرج الإمام في تلك الليلة يدور في عسكره فسمع قائلا يقول:
أيمنـعنا القوم ماء الفرات؟ وفيــــــنا علي وفينا الهدى
وفينا الصلاة وفينا الصياموفينا المناجون تحت الدجى
ثم مر بآخر فسمعه يقول:
أيمنعنا القوم ماء الفرات؟وفينا الرماح وفينا الحجف
وفينا علي له صـــــولة..إذا خـوفوه الردى لم يخف
ونحن غداة لقينا الزبـــيروطلحــة خضنا غمار التلف
فما بالنا أمس أسد العرينوما بالنا اليوم شاء عجف
وألقي على الأشعث رقعة فيها شعر، فلما قرأها هاجت فيه الحمية، ودخل على الإمام.
فقال: يا أمير المؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت.
فقال الإمام: ذلك إليكم.
فرجع الأشعث فنادى في الناس: من يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا، فإني ناهض.
فخرج اثنا عشر ألف رجل من قبيلة كندة وغيرهم، واضعي سيوفهم على عواتقهم، وأقبل الأشتر بخيله فحملوا على الفرات حملة رجل واحد وأخذت السيوف أهل الشام، فولوا مدبرين حتى غمست خيل أمير المؤمنين سنابكها في الفرات واستولوا على الماء، وأزالوا أبا الأعور عن الشريعة وغرقوا منهم بشرا وخيلا، وارتحل معاوية عن ذلك الموضع، ولما صار الماء بأيدهم قالوا: لا والله لا نسقيهم، فأرسل إليهم أمير المؤمنين: أن خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم، وخلوا بينكم وبين الماء فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم، وقالوا له: أمنعهم الماء كما منعوك، فقال: لا، خلوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، واستأذنه معاوية في وروده المشرعة فأباح الإمام له ذلك.
كان الإمام (عليه السلام) يحاول المحافظة على السلم والسلام والأمان كما فعل يوم الجمل فلم يزل يرسل الأفراد إلى معاوية للتفاهم وحسم النزاع وكان معاوية مصرا على الحرب والقتال.
وأخيرا اشتعلت نار الحرب واصطدم العسكران، فزحف بعضهم على بعض، وتراموا بالنبال والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت ومشى بعضهم إلى بعض السيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض، وانكسفت الشمس وأمطرت السماء دما، وحملت الأفواج على الأفواج.
وحيث أن الحرب كانت قد طالت على الفريقين أراد كل جانب إنهاء الأمر وسئموا البقاء هناك، ولهذا تبادروا إلى القتال واستمرت الحرب ستة وثلاثين ساعة، واقترب الجيش العلوي من مقر قيادة الجيش الأموي وطلب معاوية فرسا لينهزم، وكان أهل الشام ينادون: يا معشر العرب: الله الله في الحرمات من النساء والبنات، الله الله في البقية، لقد فنيت العرب... الخ.
اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر وتوجه الخطر إلى معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمكر، فأمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون بما تقدم من كلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فقال الإمام: اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون.
ومن هنا اختلف أصحاب علي، فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب.
فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها، وكان عدي بن حاتم يرى أن الفتح والنصر قد اقترب، ويطلب من الإمام إدامة الحرب، وقام عمرو بن الحمق وطلب من الإمام أم يعمل بما يرى، فقام الأشعث بن قيس وقابل هؤلاء بالكلام الخشن وطلب كف القتال.
فقال الأمام: إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال!!
ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها الباطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.
استمرت الحرب من يوم شروعها إلى صبيحة ليلة الهرير مائة وعشرة أيام وبلغ عدد القتلى من أهل الشام تسعين ألفا ومن أهل العراق عشرين ألفا والمجموع مائة وعشرة آلاف كما ذكره المسعودي.
فجاء الإمام من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد حاملي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من كثرة السجود، وهم الذين صاروا بعد ذلك خوارج، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلها إن لم تجبهم.
فقال الإمام (عليه السلام): ويحكم !! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب...
ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.
كان مالك الأشتر في تلك الساعة يقاتل ويتقدم لحظة بعد لحظة، وجيش معاوية كان ينسحب وينقرض ساعة بعد ساعة ولو أمهلوا الأشتر ساعة واحدة لانتهت الحرب.
فصاح هؤلاء: يا أمير المؤمنين ابعث إلى الأشتر ليأتيك.
فبعث الإمام رجلا إلى الأشتر: أن ائتني.
فقال الأشتر: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.
رجع الرسول فأخبر الإمام، وحمل الأشتر على أهل الشام وظهرت علامات الفتح، ولكن القوم قالوا: يا أمير المؤمنين ما نراك إلا أمرته بالقتال.
فقال الإمام: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ فقالوا: ابعث إليه، وإلا فوالله اعتزلناك!! فذهب الرسول إلى الأشتر وأخبره عن اختلاف القوم، وما كان الأشتر يحب مغادرة جبهة القتال في تلك الساعة الحرجة فقال له الرسول: أتحب أنك ظفرت ههنا، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلى عدوه؟؟، فقال الأشتر: سبحان الله!! لا والله، لا أحب ذلك فقال الرسول: فإنهم قد حلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتيك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمك إلى عدوك!! أقبل الأشتر مغضبا وصاح بالقوم: يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها...
فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.
قالوا: لا نمهلك.
جرى كلام طويل وعتاب بين الأشتر والقوم وآل الأمر إلى السب والشتم والصياح، فصاح بهم الإمام، فكفوا، فصاح القوم: أم أمير المؤمنين قد رضي المحاكمة بحكم القرآن.
كان الإمام ساكتا لا يتكلم، والقوم يتكلمون، ولما سكتوا قال الإمام: أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب...
إلا: إني أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون.
اضطرب أقوال الرجال وقام الرؤساء وتكلموا بما تكلموا من الموافقة على رأي الإمام ورفض المحاكمة، ولكن المهرجين نشروا هذه الكلمة: إن أمير المؤمنين رضي التحكيم.
ودخل الأشعث بن قيس ـ رأس الفساد ـ واستأذن من الإمام ليكون رسولا إلى معاوية فأذن له الإمام، فجاء الأشعث ودخل على معاوية وقال: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ فقال معاوية: لنرجع إلى ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث رجلا منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه.
فرجع الأشعث.
فأقبل جماعة من أصحاب الإمام وجماعة من أصحاب معاوية واجتمعوا بين الصفين وتذاكروا حول انتخاب (الحكم) فانتخب أهل الشام عمرو بن العاص، وانتخب الأشعث ونظراؤه أبا موسى الأشعري فرفض الإمام أبا موسى ولم يرض به، وقال الأشعث وجماعة: لا نرضى إلا به، فلم يوافق الإمام وانتخب ابن عباس ليكون (حكما) فلم يرض الأشعث بابن عباس لأنه من أقارب الإمام فاختار الأشتر فلم يرضوا به.
جادل الأشعث بكل وقاحة وصلافة، ورد على الإمام جميع مقترحاته وبقي مصرا على الأشعري، فقال الإمام: فاصنعوا ما شئتم! وكان يصفق بيديه ويقول: يا عجبا! أعصى ويطاع معاوية؟!
أرسلوا إلى أبي موسى وكان في الشام فجاء إلى معسكر الإمام، فجاء الأشتر ورشح نفسه ليكون هو الحكم، وجاء الأحنف بن قيس وحذر الإمام من الأشعري وعجزه وضعف نفسه ورشح نفسه للحكم فوافق الإمام على ذلك، ولكن الناس رفضوا وقالوا: لا يكون إلا أبا موسى.
وكتبوا كتاب الموادعة وهذه صورته: هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان...
فلما قرأ معاوية الكتاب قال: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته!! أعيد الكتاب إلى الإمام وأخبروه فأمر الإمام بمحو كلمة (أمير المؤمنين) فنهاه الأحنف عن ذلك، فقال الأشعث: أمح هذا الاسم...!! فقال الإمام: إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو...
فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك، إني إذن لظالم لك...
ولكن أكتب: محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم.
إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين، واليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول الله كتبه إلى آبائهم شبها ومثلا.
فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال الإمام: يا بن النابغة ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ ولما أرادوا تنظيم الكتاب سألوا الإمام: أتقر أنهم مسلمون مؤمنون؟ فقال الإمام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه.
فكتبوا الكتاب، وكان في أعلى الكتاب خاتم أمير المؤمنين وفي أسفله خاتم معاوية وشهد الشهود عليها وخرج الأشعث بالكتاب وقرأه على أهل العراق فهاج الناس وظهرت الفتنة والانقسام والتفرقة وتكونت الخوارج وصاحوا: لا حكم إلا لله.
فأين قتلانا يا أشعث؟ وحمل بعضهم على الأشعث ليقتله.
وأقبل الناس إلى الإمام مستنكرين للحكومة وطلبوا من الإمام نقض العهد والرجوع إلى الحرب فقال الإمام: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أليس الله تعالى قد قال: أوفوا بالعقود؟ وقال: (أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً)(1).
فبرأ الخوارج من الإمام وبرأ منهم، وأقبل الجيش يستأذنون الإمام بالهجوم على معاوية فقال الإمام (عليه السلام): لو كان هذا قبل المعاهدة وسطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم.
توجه الأشعري للاجتماع بابن العاص للمحاكمة، فحذره الناس عن ابن العاص وغدره ومكيدته وسوء سوابقه حتى يتخذ التدابير اللازمة ويكون على بصيرة من أمره، ولكن كان كل هذا بلا جدوى بلى كانت النتيجة معكوسة.
اجتمع الحكمان في المكان المعد لهما فقال عمرو: تكلم يا أبا موسى فقال الأشعري: بل أنت تكلم.
فقال عمرو: ما كنت لأفعل وأقدم نفسي قبلك، ولك حقوق كلها واجبة...
فتكلم أبو موسى فقال عمرو: إن للكلام أولاً وآخراً ومتى تنازعنا الكلام لم نبلغ آخره حتى ننسى أوله، فاجعل ما كان من كلام بيننا في كتاب يصير إليه أمرنا؟ فقال أبو موسى: اكتب، دعى عمرو بصحيفة وكاتب.
وبعد سؤال وجواب وخداع وتزوير قال الأشعري: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما ونستخلف عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فقال عمرو: أيفعل ابن عمر؟ قال: نعم، إذا حمله الناس على فعل ذلك فعل.
فقال عمرو: فهل لك في سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا.
فذكر ابن العاص جماعة والأشعري لا يرضى بهم.
فقال عمرو: قم واخطب.
فقال الأشعري: قم أنت واخطب فامتنع ابن العاص وقام الأشعري وخرج من الخيمة وقد اجتمع أربعمائة رجل من أصحاب الإمام ومثلهم من أصحاب معاوية.
فقام الأشعري وخطب خطبة وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة خلعنا عليا ومعاوية، وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه، وخلع عمامته...
وقام عمرو وقال: أيها الناس إن أبا موسى عبد الله بن قيس قد خلع عليا وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وأني خلعت عليا وأثبت معاوية علي وعليكم...
فقال الأشعري كذب عمرو ولم نستخلف معاوية ولكنا خلعنا معاوية وعليا! فقال عمرو بل كذب عبد الله بن قيس قد خلع عليا ولم أخلع معاوية.
فقال الأشعري: ما لك؟ لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
فقال عمرو: بل إياك يلعن الله، كذبت وغدرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
فضرب عمرو أبا موسى فسقط وضرب شريح عمراً بالسوط، فركب الأشعري راحلته وتوجه إلى مكة وحلف أن لا ينظر في وجه علي.

(1) سورة النحل، الآية: 91.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) والخوارج
بسم الله الرحمن الرحيم
لما تقرر التحكيم غادر الإمام (عليه السلام) صفين وقصد نحو الكوفة، وبقي في الكوفة، فوقع تحكيم الحكمين، وأنتج ذلك التحكيم خلع الإمام (عليه السلام) عن الإمامة وتثبيت معاوية، ومن هنا تكون مذهب الخوارج وكان الإمام (عليه السلام) ينتظر انقضاء السنة...
وهي مدة الهدنة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى المقاتلة والحرب، وإذا بأربعة آلاف فارس من أصحابه العباد والنساك قد تكتلوا كتلة واحدة ضد الإمام فخرجوا من الكوفة لإعلان المخالفة، وقالوا: لا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله!! وانضمت إليهم جماعة أخرى وهم ثمانية آلاف ممن يرى رأيهم فصاروا اثني عشر ألفا، من أهل الكوفة والبصرة وغيرها وساروا إلى أن نزلوا الحروراء، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فدخل زرعة الطائي وحرقوص بن زهير ـ ذو الثدية ـ فقالا: لا حكم إلا لله.
فقال علي (عليه السلام): كلمة حق يراد بها الباطل.
قال ذو الثدية: فتب من خطيئتك، وارجع عن قصتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال (عليه السلام): قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودا ومواثيق، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(1).
قال ذو الثدية: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.
فقال (عليه السلام): ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف في العقل، وقد تقدمت فنهيتكم عنه.
فقال ابن الكوا: الآن صح عندنا أنك لست بإمام، ولو كنت إماما لما رجعت.
فقال (عليه السلام) ويلكم قد رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عام الحديبية عن قتال أهل مكة.
وقال زرعة: أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه! فقال (عليه السلام): بؤساً لك! ما أشقاك! كأني بك قتيلا، تسفي عليه الرياح، قال زرعة: وددت أنه كان ذلك.
بعث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) صعصعة بن صوحان مع زياد بن نضر وعبد الله بن العباس إلى القوم فلم يرتدعوا، فدعى الإمام صعصعة وقال له: بأي القوم رأيتم أشد طاعة؟ فقال صعصعة: بيزيد بن قيس الأرحبي، فركب (عليه السلام) إلى حروراء حتى وصل إلى خيمة يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج، فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج إلى يوم القيامة، ثم كلمهم وناشدهم فقال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، ولو أنهم قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أن أحدا أكره إلى التحكيم مني؟ قالوا: صدقت.
قال: فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلكم حتى أجبتكم، فأشرطت أن حكمهما: نافذ ما حكما بحكم الله، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني؟
فقال ابن الكواء: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا كفرنا ولكن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلى الشام.
فقال (عليه السلام): أما تعلمون أن الله قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته؟ فقال: (فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها)(2)، وفي صيد (كأرنب) يساوي نصف درهم فقال: (يحكم به ذوا عدل منكم).
فقالوا: فإن عمرو بن العاص لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين محوت اسمك من الخلافة وكتبت علي بن أبي طالب، فقد خلعت نفسك.
فقال (عليه السلام): لي أسوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: هذا ما كتبه محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو وقال: لو أقررت بأنك رسو ل الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك، فاكتب محمد بن عبد الله فقال لي: يا علي، امح رسول الله.
فقلت: يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة.
فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال: اكتب محمد بن عبد الله.
ثم تبسم إلي وقال: إنك لتسام مثلها فتعطي.
فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك.
فقال علي (عليه السلام): أستغفر الله من كل ذنب.
فرجعوا معه منهم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن عليا رجع عن التحكيم ورآه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أن يسمن الكراع ويجيء المال ثم ينهض بنا إلى الشام.
فأتى الأشعث عليا (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا: أنك رأيت الحكومة ـ تحكيم الحكمين ـ ضلالاً والإقامة عليها كفراً.
فقام علي (عليه السلام) فخطب فقال: من زعم أني رجعت عن الحكمين فقد كذب، ومن رآها ضلالة فقد ضل.
فخرجت الخوارج من المسجد، ثم توجهت إلى النهروان.
ووقعت لهم في طريقهم إلى النهروان طرائف عجيبة وقضايا مبكية ومضحكة، فمنها: أنهم وجدوا مسلما ونصرانيا في طريقهم، فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.
ووثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فمه فصاحوا به، فلفظها تورعا.
ورأى أحدهم خنزيرا فضربه وقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض وأنكروا قتل الخنزير.
وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بالثمن، فقال النصراني: واعجباه أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بالثمن؟! وأما عبد الله بن خباب الأزدي، فإنه كان راكبا على حمار ومعه زوجته وهي حامل فقالوا له: حدثنا.
قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ستكون بعدي فتنة، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا فكن عند الله المقتول ولا تكن القاتل.
قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا.
قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم؟ وفي عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثنى خيرا.
قالوا: فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقياً على دينه، وأنفذ بصيرة.
قالوا: إنك تتبع الهوى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه، ثم عمدوا إلى امرأته فشقوا بطنها وهي حامل! وصل القوم إلى النهروان وتوجه الإمام (عليه السلام) بجيشه إليهم، فقال (عليه السلام): يا ابن عباس امض إلى هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه، ولماذا اجتمعوا؟ فلما وصل إليهم، دار بينهم ما يلي: الخوارج.
ويحك يا ابن عباس: كفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب! وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور التغلبي فسأله ابن عباس:
ابن عباس: من بنى الإسلام؟
عتاب: الله ورسوله.
ابن عباس: النبي أحكم أموره وبين حدوده أم لا؟
عتاب: بلى.
ابن عباس: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟
عتاب: بل ارتحل.
ابن عباس: فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت؟
عتاب: بل بقيت بعده.
ابن عباس: فهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟
عتاب: نعم الذرية والصحابة.
ابن عباس: فعمروها أو خربوها.
عتاب: بل عمروها.
ابن عباس: فالآن هي معمورة أم خراب؟
عتاب: بل خراب.
ابن عباس: خربها ذريته أم أمته؟
عتاب: بل أمته.
ابن عباس: أنت من الذرية أو من الأمة؟
عتاب: من الأمة.
ابن عباس: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام فكيف ترجو الجنة؟
فقالوا: ليخرج إلينا علي بنفسه لنسمع كلامه عسى أن يزول ما بأنفسنا إذا سمعناه فرجع ابن عباس فأخبره، فركب (عليه السلام) في جماعة، ومضى إليهم فركب ابن الكوا في جماعة منهم، فلما التقوا قال الإمام (عليه السلام): يا بن الكوا إن الكلام كثير، فأبرز إلي من أصحابك لأكلمك.
فقال: وأنا آمن من سيفك؟ قال (عليه السلام): نعم.
فخرج إليه في عشرة من أصحابه فقال له علي (عليه السلام): ألم أقل لكم إن أهل الشام إنما يخدعونكم بها ـ الحكومة ورفع المصاحف وغير ذلك ـ فإن الحرب قد عضتهم فذروني أناجزهم فأبيتم؟ ألم أرد نصب ابن عمي ـ ابن عباس ـ وقلت: إنه لا ينخدع فأبيتم إلا أبا موسى؟ وقلتم: رضينا به حكما.
فأجبتكم كارها؟ ولو وجدت في ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم، وشرطت على الحكمين بحضوركم.
أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته.
والسنة الجامعة، وإنهما إن لم يفعلا فلا طاعة لهما علي؟ كان ذلك أو لم يكن؟ قال ابن الكواء: صدقت، كان هذا كله، فلم لا نرجع الآن إلى حرب القوم؟ قال الإمام (عليه السلام): حتى تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.
قال ابن الكوا: وأنت مجمع على ذلك؟ قال (عليه السلام): نعم، لا يسعني غيره، فعاد ابن الكواء والعشرة الذين معه إلى أصحاب علي (عليه السلام) راجعين عن دين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حكم إلا لله.
وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي وذا الثدية، وعسكروا بالنهروان، وخرج الإمام (عليه السلام) حتى بقي على فرسخين منهم، وكاتبهم وراسلهم، فلم يرتدعوا، فأمر الإمام ابن عباس أن يركب إليهم، وقال: سلهم ما الذي نقموه؟ وأنا ردفك فلا تخف منهم.
فلما جاءهم ابن عباس قال: ما الذي نقمتم من أمير المؤمنين؟ قالوا: نقمنا أشياء لو كان حاضراً لكفرناه بها!! ـ والإمام يسمع كلامهم ـ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين قد سمعت كلامهم وأنت أحق بالجواب.
فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلموا بما نقمتم علي.
قالوا: نقمنا عليك أولا: إنا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية، فكيف حل لنا ما في المعسكر ولم يحل لنا النساء؟ فقال (عليه السلام): يا هؤلاء، إن أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلما ظفرتم بهم قسمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرية، فإن النساء لم يقاتلن، ولدوا على الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من على المشركين، فلا تعجبوا إن مننت على المسلمين فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.
قالوا: نقمنا عليك يوم صفين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميرا لنا!! قال (عليه السلام): يا هؤلاء إنما اقتديت برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين صالح سهيل بن عمرو وقد تقدمت عنهم في ذلك الوقت.
قالوا: نقمنا عليك.
أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب الله، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة.
فإذا كنت شاكا في نفسك فنحن فيك أشد وأعظم شكا! قال (عليه السلام): إنما أردت بذلك النصفة ـ الإنصاف ـ فإني لو قلت: أحكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلّى الله عليه وآله) لنصارى نجران لما قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليكم.
فلم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره الله فقال: (فنجعل لعنة الله على الكافرين)(3) فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خدعة أبي موسى.
قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكمت حكما في حق هو لك.
فقال (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شيء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين فأعطى أمير المؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب من جاء إلى هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.
فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة علي وأصحابه، وبادروا إلى الجنة.
وصاحوا: الرواح إلى الجنة!! وتقدم حرقوص ذو الثدية وعبد الله بن وهب وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال (عليه السلام): (هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)(4) فكان أول من خرج أخنس بن العزيز الطائي، فقتله الإمام (عليه السلام) وخرج عبد الله بن وهب ومالك بن الوضاح، وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) وقتل الوضاح وضرب ضربة على رأس الحرقوص وقتله، وأمر أصحابه بالهجوم على العدو.
عند ذلك استعرت الحرب والتهبت نيرانها، وأما عبد الله بن وهب الراسبي فصاح: يا ابن أبي طالب: والله لا نبرح من هذه المعركة حتى تأتي على أنفسنا ونأتي على نفسك، فأبرز إلي وأبرز إليك، وذر الناس جانبا، فلما سمع الإمام كلامه تبسم وقال: قاتله الله من رجل ما أقل حياءه، أما أنه ليعلم إني حليف السيف وخدين الرمح، ولكنه قد يئس من الحياة، وإنه ليطمع طمعا كاذبا، ثم حمل عليه الإمام فضربه وقتله وألحقه بأصحابه في النار، واختلط الجيشان فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، ولم ينج منهم إلا تسعة أنفس: رجلان هربا إلى خراسان إلى أرض سجستان وبها نسلهما، ورجلان صارا إلى اليمن وفيهما نسلهما (وهم الإباضية)، ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يعرف بالسن والبواريخ نواحي تكريت في شمال العراق والباقون تفرقوا في البلاد.
وقتل من أصحاب علي (عليه السلام) بعدد من سلم من الخوارج.

(1) سورة النحل، الآية: 91.
(2) سورة النساء، الآية: 35.
(3) سورة آل عمران، الآية: 61.
(4) سورة الكهف، الآيتان: 103 و104.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) والخوارج


بسم الله الرحمن الرحيم

لما تقرر التحكيم غادر الإمام (عليه السلام) صفين وقصد نحو الكوفة، وبقي في الكوفة، فوقع تحكيم الحكمين، وأنتج ذلك التحكيم خلع الإمام (عليه السلام) عن الإمامة وتثبيت معاوية، ومن هنا تكون مذهب الخوارج وكان الإمام (عليه السلام) ينتظر انقضاء السنة...
وهي مدة الهدنة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى المقاتلة والحرب، وإذا بأربعة آلاف فارس من أصحابه العباد والنساك قد تكتلوا كتلة واحدة ضد الإمام فخرجوا من الكوفة لإعلان المخالفة، وقالوا: لا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله!! وانضمت إليهم جماعة أخرى وهم ثمانية آلاف ممن يرى رأيهم فصاروا اثني عشر ألفا، من أهل الكوفة والبصرة وغيرها وساروا إلى أن نزلوا الحروراء، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فدخل زرعة الطائي وحرقوص بن زهير ـ ذو الثدية ـ فقالا: لا حكم إلا لله.
فقال علي (عليه السلام): كلمة حق يراد بها الباطل.
قال ذو الثدية: فتب من خطيئتك، وارجع عن قصتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال (عليه السلام): قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودا ومواثيق، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(1).
قال ذو الثدية: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.
فقال (عليه السلام): ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف في العقل، وقد تقدمت فنهيتكم عنه.
فقال ابن الكوا: الآن صح عندنا أنك لست بإمام، ولو كنت إماما لما رجعت.
فقال (عليه السلام) ويلكم قد رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عام الحديبية عن قتال أهل مكة.
وقال زرعة: أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه! فقال (عليه السلام): بؤساً لك! ما أشقاك! كأني بك قتيلا، تسفي عليه الرياح، قال زرعة: وددت أنه كان ذلك.
بعث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) صعصعة بن صوحان مع زياد بن نضر وعبد الله بن العباس إلى القوم فلم يرتدعوا، فدعى الإمام صعصعة وقال له: بأي القوم رأيتم أشد طاعة؟ فقال صعصعة: بيزيد بن قيس الأرحبي، فركب (عليه السلام) إلى حروراء حتى وصل إلى خيمة يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج، فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج إلى يوم القيامة، ثم كلمهم وناشدهم فقال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، ولو أنهم قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أن أحدا أكره إلى التحكيم مني؟ قالوا: صدقت.
قال: فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلكم حتى أجبتكم، فأشرطت أن حكمهما: نافذ ما حكما بحكم الله، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني؟
فقال ابن الكواء: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا كفرنا ولكن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلى الشام.
فقال (عليه السلام): أما تعلمون أن الله قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته؟ فقال: (فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها)(2)، وفي صيد (كأرنب) يساوي نصف درهم فقال: (يحكم به ذوا عدل منكم).
فقالوا: فإن عمرو بن العاص لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين محوت اسمك من الخلافة وكتبت علي بن أبي طالب، فقد خلعت نفسك.
فقال (عليه السلام): لي أسوة برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: هذا ما كتبه محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو وقال: لو أقررت بأنك رسو ل الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك، فاكتب محمد بن عبد الله فقال لي: يا علي، امح رسول الله.
فقلت: يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة.
فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال: اكتب محمد بن عبد الله.
ثم تبسم إلي وقال: إنك لتسام مثلها فتعطي.
فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك.
فقال علي (عليه السلام): أستغفر الله من كل ذنب.
فرجعوا معه منهم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن عليا رجع عن التحكيم ورآه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أن يسمن الكراع ويجيء المال ثم ينهض بنا إلى الشام.
فأتى الأشعث عليا (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا: أنك رأيت الحكومة ـ تحكيم الحكمين ـ ضلالاً والإقامة عليها كفراً.
فقام علي (عليه السلام) فخطب فقال: من زعم أني رجعت عن الحكمين فقد كذب، ومن رآها ضلالة فقد ضل.
فخرجت الخوارج من المسجد، ثم توجهت إلى النهروان.
ووقعت لهم في طريقهم إلى النهروان طرائف عجيبة وقضايا مبكية ومضحكة، فمنها: أنهم وجدوا مسلما ونصرانيا في طريقهم، فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.
ووثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فمه فصاحوا به، فلفظها تورعا.
ورأى أحدهم خنزيرا فضربه وقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض وأنكروا قتل الخنزير.
وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بالثمن، فقال النصراني: واعجباه أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بالثمن؟! وأما عبد الله بن خباب الأزدي، فإنه كان راكبا على حمار ومعه زوجته وهي حامل فقالوا له: حدثنا.
قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ستكون بعدي فتنة، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا فكن عند الله المقتول ولا تكن القاتل.
قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا.
قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم؟ وفي عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثنى خيرا.
قالوا: فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقياً على دينه، وأنفذ بصيرة.
قالوا: إنك تتبع الهوى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه، ثم عمدوا إلى امرأته فشقوا بطنها وهي حامل! وصل القوم إلى النهروان وتوجه الإمام (عليه السلام) بجيشه إليهم، فقال (عليه السلام): يا ابن عباس امض إلى هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه، ولماذا اجتمعوا؟ فلما وصل إليهم، دار بينهم ما يلي: الخوارج.
ويحك يا ابن عباس: كفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب! وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور التغلبي فسأله ابن عباس:
ابن عباس: من بنى الإسلام؟
عتاب: الله ورسوله.
ابن عباس: النبي أحكم أموره وبين حدوده أم لا؟
عتاب: بلى.
ابن عباس: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟
عتاب: بل ارتحل.
ابن عباس: فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت؟
عتاب: بل بقيت بعده.
ابن عباس: فهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟
عتاب: نعم الذرية والصحابة.
ابن عباس: فعمروها أو خربوها.
عتاب: بل عمروها.
ابن عباس: فالآن هي معمورة أم خراب؟
عتاب: بل خراب.
ابن عباس: خربها ذريته أم أمته؟
عتاب: بل أمته.
ابن عباس: أنت من الذرية أو من الأمة؟
عتاب: من الأمة.
ابن عباس: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام فكيف ترجو الجنة؟
فقالوا: ليخرج إلينا علي بنفسه لنسمع كلامه عسى أن يزول ما بأنفسنا إذا سمعناه فرجع ابن عباس فأخبره، فركب (عليه السلام) في جماعة، ومضى إليهم فركب ابن الكوا في جماعة منهم، فلما التقوا قال الإمام (عليه السلام): يا بن الكوا إن الكلام كثير، فأبرز إلي من أصحابك لأكلمك.
فقال: وأنا آمن من سيفك؟ قال (عليه السلام): نعم.
فخرج إليه في عشرة من أصحابه فقال له علي (عليه السلام): ألم أقل لكم إن أهل الشام إنما يخدعونكم بها ـ الحكومة ورفع المصاحف وغير ذلك ـ فإن الحرب قد عضتهم فذروني أناجزهم فأبيتم؟ ألم أرد نصب ابن عمي ـ ابن عباس ـ وقلت: إنه لا ينخدع فأبيتم إلا أبا موسى؟ وقلتم: رضينا به حكما.
فأجبتكم كارها؟ ولو وجدت في ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم، وشرطت على الحكمين بحضوركم.
أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته.
والسنة الجامعة، وإنهما إن لم يفعلا فلا طاعة لهما علي؟ كان ذلك أو لم يكن؟ قال ابن الكواء: صدقت، كان هذا كله، فلم لا نرجع الآن إلى حرب القوم؟ قال الإمام (عليه السلام): حتى تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.
قال ابن الكوا: وأنت مجمع على ذلك؟ قال (عليه السلام): نعم، لا يسعني غيره، فعاد ابن الكواء والعشرة الذين معه إلى أصحاب علي (عليه السلام) راجعين عن دين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حكم إلا لله.
وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي وذا الثدية، وعسكروا بالنهروان، وخرج الإمام (عليه السلام) حتى بقي على فرسخين منهم، وكاتبهم وراسلهم، فلم يرتدعوا، فأمر الإمام ابن عباس أن يركب إليهم، وقال: سلهم ما الذي نقموه؟ وأنا ردفك فلا تخف منهم.
فلما جاءهم ابن عباس قال: ما الذي نقمتم من أمير المؤمنين؟ قالوا: نقمنا أشياء لو كان حاضراً لكفرناه بها!! ـ والإمام يسمع كلامهم ـ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين قد سمعت كلامهم وأنت أحق بالجواب.
فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلموا بما نقمتم علي.
قالوا: نقمنا عليك أولا: إنا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية، فكيف حل لنا ما في المعسكر ولم يحل لنا النساء؟ فقال (عليه السلام): يا هؤلاء، إن أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلما ظفرتم بهم قسمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرية، فإن النساء لم يقاتلن، ولدوا على الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من على المشركين، فلا تعجبوا إن مننت على المسلمين فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.
قالوا: نقمنا عليك يوم صفين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميرا لنا!! قال (عليه السلام): يا هؤلاء إنما اقتديت برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين صالح سهيل بن عمرو وقد تقدمت عنهم في ذلك الوقت.
قالوا: نقمنا عليك.
أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب الله، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة.
فإذا كنت شاكا في نفسك فنحن فيك أشد وأعظم شكا! قال (عليه السلام): إنما أردت بذلك النصفة ـ الإنصاف ـ فإني لو قلت: أحكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلّى الله عليه وآله) لنصارى نجران لما قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليكم.
فلم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره الله فقال: (فنجعل لعنة الله على الكافرين)(3) فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خدعة أبي موسى.
قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكمت حكما في حق هو لك.
فقال (عليه السلام): إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شيء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين فأعطى أمير المؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب من جاء إلى هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.
فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة علي وأصحابه، وبادروا إلى الجنة.
وصاحوا: الرواح إلى الجنة!! وتقدم حرقوص ذو الثدية وعبد الله بن وهب وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال (عليه السلام): (هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)(4) فكان أول من خرج أخنس بن العزيز الطائي، فقتله الإمام (عليه السلام) وخرج عبد الله بن وهب ومالك بن الوضاح، وخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) وقتل الوضاح وضرب ضربة على رأس الحرقوص وقتله، وأمر أصحابه بالهجوم على العدو.
عند ذلك استعرت الحرب والتهبت نيرانها، وأما عبد الله بن وهب الراسبي فصاح: يا ابن أبي طالب: والله لا نبرح من هذه المعركة حتى تأتي على أنفسنا ونأتي على نفسك، فأبرز إلي وأبرز إليك، وذر الناس جانبا، فلما سمع الإمام كلامه تبسم وقال: قاتله الله من رجل ما أقل حياءه، أما أنه ليعلم إني حليف السيف وخدين الرمح، ولكنه قد يئس من الحياة، وإنه ليطمع طمعا كاذبا، ثم حمل عليه الإمام فضربه وقتله وألحقه بأصحابه في النار، واختلط الجيشان فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، ولم ينج منهم إلا تسعة أنفس: رجلان هربا إلى خراسان إلى أرض سجستان وبها نسلهما، ورجلان صارا إلى اليمن وفيهما نسلهما (وهم الإباضية)، ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يعرف بالسن والبواريخ نواحي تكريت في شمال العراق والباقون تفرقوا في البلاد.
وقتل من أصحاب علي (عليه السلام) بعدد من سلم من الخوارج.

(1) سورة النحل، الآية: 91.
(2) سورة النساء، الآية: 35.
(3) سورة آل عمران، الآية: 61.
(4) سورة الكهف، الآيتان: 103 و104.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) بقلمه ولسانه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما يحب أن يحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله خير البرية.
قال الله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة)(1).
أيها الإخوان: لقد ذكرنا في الليالي الماضية شيئا من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) حول نفسه ومواهبه ومزاياه ومواقفه، الليلة: نستمع إلى شيء من خطبه (عليه السلام) المشتملة على فضائله وفواضله، وخصائصه، ومكارم أخلاقه، وبعبارة أخرى نستمع إلى تاريخ حياته من لسانه، ونقرأ كتابا خاصا كتبه (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف والي البصرة وهو من جلائل كتبه ورسائله ومشاهيرها، وقد رأيت ترجمته بلغات عديدة، ويمتاز هذا الكتاب عن غيره لأنه بقلم رئيس حكومة كان يحكم على نصف الكرة الأرضية، وحياة الناس ومماتهم بين شفتيه، وكنوز الذهب والفضة تحت يده، ومع ذلك كله ومع تلك الإمكانيات اختار لنفسه أبسط معيشة وأزهد حياة لا يستطيع أي فرد من أفراد البشر أن يسلك طريقته ويكون مثله، ضع يدك على من شئت وقارن بين حياته وحياة أمير المؤمنين فيظهر لك صدق هذا الكلام، وتعرف أن الإمام هو الرجل الوحيد في مواهبه ومزاياه.
نستمع إلى كلامه ونقرأ كتابه بقلمه، فإنه أعرف بنفسه من غيره، ومهما ظهرت نفسيات الإنسان وصفاته واطلع عليها الناس ومع ذلك فإن في حياة الإنسان الداخلية والخارجية أسرارا وسرائرا وخفايا ونوايا لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى والإنسان نفسه، فالإنسان أبصر بنفسه من غيره وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة)(2).
لم يقصد الإمام (عليه السلام) من بيان هذه الأمور تزكية نفسه بل بيان حقائق عن شخصيته لا يستطيع أحد أن يناقشه فيها أو يكابر.
وهنا نقتطف من خطبه الشيء اليسير ومن رسائله رسالة واحدة وفيها الكفاية.
الخطبة الشقشقية
أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم منها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها المؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده (ثم تمثل بقول الأعشى):
شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر
فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها(3) ويخشن مسها.
ويكثر العثار فيها.
والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم.
وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا.
فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة(4) الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله.
وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون علي من كل جانب.
حتى لقد وطئ الحسنان.
وشق عطفاي, مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى, وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)(5).
بلى والله لقد سمعوها ووعوها.
ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.
أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر.
وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها.
ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز...
(قالوا) وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه قال له ابن عباس رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت.
فقال: هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت!!
قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) بلغ منه حيث أراد.
قوله: (كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم)، يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها وإن أرخى عليها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها، يقال: أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه وشنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق.
ومن كلام (عليه السلام)
ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) أني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها.
ولقد قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإن رأسه على صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي.
ولقد ولّيت غسله (صلّى الله عليه وآله) والملائكة أعواني، فضجت الدار، والأفنية ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم (الهينمة: الصوت الخفي) يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه.
فما أحق به مني حياً وميتاً؟ فأنفذوا بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم.
فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق وإنهم لعلى مزلة الباطل أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
ومن كلام له (عليه السلام)
والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، وأُجرّ في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيءٍ من الحطام.
وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها، والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بُرّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً وكرر علي القول مردّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها.
فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه؟ وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى؟ ولا أئن من لظى؟ وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها، كأنما عُجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت.
فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية.
فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت؟ أم ذو جنة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت افلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها! ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى؟ نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين.
ومن خطبة له (عليه السلام)
أما بعد أيها الناس.
فأنا فقأت عين الفتنة، ولم تكن ليجرأ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، وأشتد كلبها، فاسألوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ويموت منهم موتاً، ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق كثير من السائلين وفشل كثيراً من المسؤولين.
ومن خطبه له (عليه السلام)
أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم.
وأدّيت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم.
وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا.
وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا.
لله أنتم! أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم في الطريق، ويرشدكم السبيل؟
ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى.
ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق.
قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن، بعد خوفهم؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين أبن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ (قال ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء).
ثم قال (عليه السلام): أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فأتبعوه (ثم نادى بأعلى صوته: ) الجهاد...
الجهاد عباد الله.
ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج.
ومن كلام له (عليه السلام)
لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم، أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً.
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: أما بعد يا بن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ألا: وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد.
فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبيّ طمراَ.
بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين.
ونعم الحكم الله وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فدجها التراب المتراكم؟، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق.
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة.
ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع.
أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داءً أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد
أأقنع من نفسي بان يقال أمير المؤمنين؟ ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش.
فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها.
أو أترك سدى أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.
وكأني بقائلكم يقول: إذا كان (هذا) قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان.
ألا: وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد.
والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن اطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد.
إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلت من حبائلك، واجتنيت الذهاب في مداحضك.
أين القرون الذين غررتهم بمداعبك؟ أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك؟ ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود.والله لو كنت شخصاً مرئياً وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر.
هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ حبائلك وُفّق.
والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه عني.
فو الله لا أذل لك فتستذلني، ولا أسلس لك فتقوديني.
وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها.
أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل علي من زاده فيهجع؟ قرت إذاً عينه! إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية.
طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها! وعركت بجنبها بؤسها.
وهجرت في الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم.
وهمهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)(6) فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك.
في كتاب الأنوار النعمانيه عن كتاب المناقب مسنداً إلى صعصعة بن صوحان: أنه دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) لما ضرب فقال: يا أمير المؤمنين أنت أفضل أم آدم أبو البشر؟ قال علي (عليه السلام) تزكية المرء نفسه قبيح.
لكن قال الله تعالى لآدم: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)(7)، وأنا أكثر الأشياء أباحها لي وتركتها وما قاربتها.
ثم قال: أنت أفضل يا أمير المؤمنين أم نوح؟ قال علي: إن نوحاً دعا على قومه، وأنا ما دعوت على ظالمي حقي، وابن نوح كان كافراً، وابناي سيد شباب أهل الجنة.
وقال: أنت أفضل أم موسى؟ قال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أرسل موسى إلى فرعون فقال: (إني أخـــاف أن يقتلون) حتى قال الله تعالى: (لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون)(8) قال: (رب إني قتلت منهم نفســــاً وأخاف أن يقـــتلون)(9) وأنا ما خفت حين أرسلني رسول الله بتبليغ سورة البراءة أن أقرأها على قريش في الموسم مع إني كنت قتلت كثيراً من صناديدهم، فذهبت بها وقرأتها عليهم وما خفتهم.
ثم قال: أنت أفضل أم عيسى بن مريم؟ قال علي: عيسى كانت أمه في بيت المقدس فلما جاء وقت ولادتها سمعت قائلاً يقول: أخرجي، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة، وأنا أمي فاطمة بنت أسد لما قرب وضع حملها كانت في الحرم فانشق حائط الكعبة وسمعت قائلاً يقول: أدخلي فدخلت في وسط البيت، وأنا ولدت فيه، وليس لأحد هذه الفضيلة، لا قبلي ولا بعدي.

(1) سورة القيامة، الآية: 14.
(2) سورة القيامة، الآية: 14.
(3) وفي نسخة أخرى: كلمها.
(4) وفي نسخة أخرى: خضم.
(5) سورة القصص، الآية: 83.
(6) سورة المجادلة، الآية: 22
(7) سورة البقرة، الآية: 35.
(8) سورة القصص، الآية: 33.
(9) سورة النمل، الآية: 10.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) ينعى نفسه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين على المصيبة وصلى الله على محمد وآله المظلومين.
قال الله تعالى: (من الـــمؤمنيـــن رجالاً صدقـــوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)(1).
نبدأ حديثنا من هذه الليلة حول شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلقد سبق أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخبر علياً بأنه يفوز بالشهادة في سبيل الله، ففي يوم أحد تأسف الإمام أمير المؤمنين على حرمانه الشهادة في ذلك اليوم فقال له النبي: إنها من ورائك.
ويوم الخندق لما ضربه عمرو بن عبدود على رأسه كانت الدماء تسيل على وجهه الشريف فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يشد جرحه ويقول له: أين أنا يوم ضربك أشقى الآخرين على رأسك ويخضب لحيتك من دم رأسك؟؟
وخطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في آخر جمعة من شهر شعبان وذكر ما يتعلق بشهر رمضان، فقام علي (عليه السلام) وقال: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل، ثم بكى النبي فقال (عليه السلام): ما يبكيك؟ فقال: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر! كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك، قال الإمام: وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك... الخ.
وكان الإمام (عليه السلام) كثيراً ما يخبر الناس بشهادته واختضاب لحيته الكريمة بدم رأسه، وحينما أتاه عبد الرحمن بن ملجم ليبايعه نظر علي في وجه طويلاً، ثم قال: أرأيتك إن سألتك عن شيء وعندك منه علم هل أنت مخبر عنه؟ قال: نعم، وحلفه عليه فقال: أكنت تواضع الغلمان وتقوم عليهم وكنت إذا جئت فرأوك من بعيد قالوا: قد جاءنا ابن راعية الكلاب؟؟ فقال: اللهم نعم.
فقال له: مررت برجل وقد أيفعت (صرت يافعاً) فنظر إليك نظراً حاداً فقال: أشقى من عاقر ناقة ثمود؟ قال: نعم قال: قد أخبرتك أمك أنها حملت بك في بعض حيضها؟ فتعتع هنيئة ثم قال: نعم.
فقال الإمام: قم فقام، قال (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (قاتلك شبه اليهودي بل هو اليهودي).
وقد تكرر منه (عليه السلام) أن رأى ابن ملجم فقال: أريد حياته ويريد قتلي، وفي تلك السنة الأخيرة من حياته والشهر الأخير من حياته كان يخبر الناس بشهادته فيقول: ألا وإنكم حاجوا العام صفاً واحداً، وآية (علامة) ذلك أني لست فيكم.
فعلم الناس أنه ينعى نفسه، ولم يكتفِ (عليه السلام) بذلك بل كان يدعو على نفسه ويسأل من الله تعالى تعجيل الوفاة، وتارة كان يكشف عن رأسه وينشر المصحف على رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلاً: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني، أما أن تخضب هذه من هذا ـ ويشير إلى هامته ولحيته.
وقبل الواقعة أخبر (عليه السلام) أبنته أم كلثوم بأنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يمسح الغبار عن وجهه ويقول: يا علي لا عليك، قضيت ما عليك.
وكان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وفي شهر رمضان من تلك السنة كان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن وليلة عند ولده الحسين وليلة عند ابنته زينب الكبرى زوجة عبد الله بن جعفر وليلة عند أبنته زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم.
وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام (عليه السلام) في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره في طبق فيه: قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن حامض، فأمر الإمام ابنته أن ترفع اللبن، وأفطر بالخبز والملح، ولم يشرب من اللبن شيئاً لأن في الملح كفاية، وأكل قرصاً واحداً، ثم حمد الله وأثنى عليه، و قام إلى الصلاة، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى، وكان يكثر الدخول والخروج وينظر إلى السماء ويقول: هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله.
ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً على قدميه وهو يقول: اللهم بارك لنا في لقائك.
ويكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم صلى حتى ذهب بعض الليل، ثم جلس للتعقيب، ثم نامت عيناه وهو جالس، ثم انتبه من نومته مرعوباً، وقالت أم كلثوم: قال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني وأريد أن أقصها عليكم قالوا: وما هي؟ قال: إني رأيت الساعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى.
قال: فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر قالت أم كلثوم: لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها، ثم يعود إلى مصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت.
ويكثر من قول: (أنا لله وأنا إليه راجعون) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ويصلى على النبي (صلّى الله عليه وآله) ويستغفر الله كثيراً قالت أم كلثوم فلما رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه ما لي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ قال: يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة ثم قال: (أنا لله وأنا إليه راجعون).
فقلت يا أبا ما لك تنعى نفسك منذ الليلة؟ قال: بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل قالت أم كلثوم: فبكيت فقال لي يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (صلّى الله عليه وآله) ثم إنه نعس وطوى ساعة ثم استيقظ من نومه، وقال: يا بنية إذا قرب الأذان فأعلميني.
ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قالت أم كلثوم: فجعلت أرقب الأذان فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه وفتح بابه ثم نزل إلى الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين (عليه السلام) فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن، وصحن في وجهه.
وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوائح، وفي غداة غد يظهر القضاء.
فقلت: يا أبتاه هكذا تتطير؟ فقال: بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به.
ولكن قول جرى على لساني ثم قال: يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه، وقد حبست ما ليس له لسان، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض.
فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فتعلق الباب بمئزره فانحل مئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكــــــا
ولا تجزع من المــوت إذا حــل بناديكــــــا
كما أضحك الدهـــــــر كذاك الدهر يبكـــيكا
ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت اللهم بارك لنا في لقائك قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة قال: يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً، فامسكي عن الجواب، ثم فتح الباب وخرج قالت أم كلثوم: فجئت إلى أخي الحسن (عليه السلام) فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا وهو قد خرج في هذا الليل الغلس فالحقه فقام الحسن بن علي (عليه السلام) وتبعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فأمره الإمام بالرجوع فرجع.
وأما عدو الله: عبد الرحمن بن ملجم فكان على رأي الخوارج وكانت بينه وبين قطام حب وغرام، وقطام قد قتل أبوها وأخوها وزوجها في النهروان، وقد امتلأ قلبها غيظاً وعداءً لأمير المؤمنين وأراد ابن ملجم أن يتزوجها فاشترطت عليه أن يقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستعظم هذا الأمر وطلبت منه ثلاثة آلاف دينار وعبداً وقينة (جارية) وينسب إليه هذه الأبيات:
فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقيـــنــــــة وضرب علي بالحسام المصمم
وقيل إنه تعاهد هو ورجلين على قتل معاوية وعمرو بن العاص واختار الثالث قتل معاوية، فقصد البرك بن عبد الله التميمي مصر ليقتل ابن العاص، ولم يخرج ابن العاص تلك الصبيحة فأرسل رجلاً يقال له: خارجة بن تميم، فلما وقف في المحراب صربه البرك ظناً منه أنه ابن العاص فمات خارجة من تلك الضربة.
وأما الآخر ويقال له: العنبري فإنه قصد الشام يقصد قتل معاوية وتعرف بمعاوية وجعل يدخل عليه ويلاطف له في الكلام وينشده الأشعار حتى صارت صبيحة يوم التاسع عشر من شهر رمضان وجاء معاوية للصلاة وثار إليه العنبري ورفع السيف ليضرب عنقه فأخطأ الضربة فوقع السيف على إلية معاوية، ولم يقتل من ضربته بل جرح جرحاً برء بالمعالجة.
وأما عبد الرحمن بن ملجم فقد جاء تلك الليلة وبات في المسجد ينتظر طلوع الفجر ومجيء الإمام للصلاة وهو يفكر حول الجريمة العظمى التي قصد ارتكابها ومعه رجلان: شبيب بن بحرة ووردان بن مجالد يساعدانه على قتل الإمام.
وسار الإمام إلى المسجد فصلى في المسجد، ثم صعد المأذنة ووضع سبابته في أذنيه وتنحنح، ثم أذن، فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته، ثم نزل عن المأذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره، ويكثر من الصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة، يرحمك الله، قم إلى الصلاة المكتوبة ثم يتلو: (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر).
لم يزل الإمام يفعل ذلك حتى وصل إلى ابن ملجم وهو نائم على وجهه وقد أخفى سيفه تحت إزاره فقال له الإمام: يا هذا قم من نومك هذا فإنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان، ونومة أهل النار بل نم على يمينك فإنها نومة العلماء، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء.
نعم، الشمس تشرق على البر والفاجر والكلب والخنزير وكل رجس وقذر، والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يفيض من علومه على الأخيار والأشرار وينصح السعداء والأشقياء ولا يبخل عن الخير حتى لأشقى الأشقياء، ويرشد كل أحد حتى قاتله!! ثم قال له الإمام: لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ثم تركه، واتجه إلى المحراب، وقام قائماً يصلي، وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود في صلاته، فقام المجرم الشقي لإنجاز أكبر جريمة في تاريخ الكون!! وأقبل مسرعاً يمشي حتى وقف بازاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها فتقدم اللعين وأخذ السيف وهزه ثم ضربه على رأسه الشريف فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمر بن عبدود العامري.
فوقع الإمام على وجهه قائلاً: بسم الله وعلى ملة رسول الله ثم صاح الإمام: قتلني ابن ملجم قتلني ابن اليهودية، أيها الناس لا يفوتكم ابن ملجم.
أخبر الإمام عن قاتله كيلا يشتبه الناس بغيره فيقتلون البريء، كما قتل في حادثة قتل عمر بن الخطاب جماعة من الأبرياء المساكين الذين هجم عليهم عبيد الله بن عمر وقتلهم.
حتى في تلك اللحظة يحافظ الإمام على النظام وعلى حياة الناس، نبع الدم العبيط من هامة الإمام وسال على وجهه المنير، وخضب لحيته الكريمة وصدق كلام الرسول ووقع ما أخبر به، لم يفقد الإمام وعيه وما انهارت أعصابه بالرغم من وصول الضربة إلى جبهته وبين حاجبيه، فجعل يشد الضربة بمئزره ويضع عليها التراب، ولم يمهله الدم فقد سال على صدره وأزياقه، وعوضاً من التأوه والتألم والتوجع كان يقول (صلوات الله عليه): فزت ورب الكعبة! هذا ما وعد الله ورسوله! وصدق الله ورسوله! استولت الدهشة والذهول على الناس، وخاصة على المصلين في المسجد، وفي تلك اللحظة هتف جبرائيل بذلك الهتاف السماوي.
لم نسمع في تاريخ الأنبياء أن جبرائيل هتف يوم وفاة نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء، ولكنه هتف ذلك الهتاف لما وصل السيف إلى هامة الإمام وهو بعد حي، هتف بشهادته كما هتف يوم أحد بفتوته وشهامته يوم قال: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار.
فاصطفت أبواب الجامع وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ونادى جبرائيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى وانفصمت والله العروة الوثقى قتل ابن عم محمد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) قتل الوصي المجتبى قتل علي المرتضى، قتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرائيل لطمت على وجهها، وخدها وشقت جيبها وصاحت: واأبتاه واعلياه وامحمداه واسيداه.
وخرج الحسن والحسين فإذا الناس ينوحون وينادون: واإماماه واأمير المؤمنيناه، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم قط وكان أشبه الناس برسول الله.
فلما سمع الحسن والحسين (عليهما السلام) صرخات الناس ناديا: واأبتاه واعلياه ليت الموت أعدمنا الحياة، فلما وصلا إلى الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس.
فلم يطق على النهوض، وتأخر عن الصف وتقدم الحسن (عليه السلام) فصلى بالناس، وأمير المؤمنين (عليه السلام) صلى إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته يميل تارة ويسكن أخرى والحسن (عليه السلام) ينادي: واانقطاع ظهراه! يعز ـ والله ـ علي أن أراك هكذا ـ ففتح الإمام (عليه السلام) عينه.
وقال: يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم! هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون فينتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً وقر عيناً وكف عن البكاء، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء.
ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس حتى المخدرات خرجن من خدرهن إلى الجامع ينظرون إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن (عليه السلام) ورأس أبيه في حجره وقد غسل الدم عنه، وشد الضربة وهي بعدها تشخب دماً ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه، ولسانه يسبح الله ويوحده، وهو يقول أسألك يا رب الرفيع الأعلى.
فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشياً عليه فعندها بكى بكاء شديداً وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده فسقط من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين (عليه السلام) ففتح عينيه فرآه باكياً.
فقال له الإمام (عليه السلام): يا بني يا حسن ما هذا البكاء؟ يا بني لا روع على أبيك بعد اليوم! يا بني أتجزع على أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا؟ وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما؟ فقال له الحسن (عليه السلام): يا أبتاه ما تعرفنا من قتلك؟ ومن فعل بك هذا؟ قال (عليه السلام): قتلني ابن اليهودية: عبد الرحمن بن ملجم المرادي فقال: يا أباه من أي طريق مضى؟ قا لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب.
وأشار بيده الشريفة إلى باب كنده.
ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه ثم أغمي عليه ساعة والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب كنده، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب ويرتقبون قدوم الملعون وقد غص المسجد بالعالم ما بين باكٍ ومحزون فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت، من الناس وقد جاءوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفاً هذا يلعنه وهذا يضربه.
فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه فأقبلوا باللعين مكتوفاً وهم ينهشون لحمه بأسنانهم، ويقولون له: يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد (صلّى الله عليه وآله) وقتلت خير الناس.
وإنه لصامت وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله وهو يقول هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتى أدخلوه إلى المسجد.
وكانت عيناه قد طارتا في أم رأسه كأنهما قطعتا علق وقد وقعت في وحهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل على لحيته وعلى صدره، وهو ينظر يميناً وشمالاً وعيناه قد طارتا في أم رأسه وهو أسمر اللون وكان على رأسه شعر أسود منشوراً على وجهه كأنه الشيطان الرجيم.
فلما جاءوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام): قال له: يا ويلك يا لعين! يا عدو الله! أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا بإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك على غيرك؟ وهل كان بئس الإمام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي؟؟ فلم يتكلم بل دمعت عيناه.
فقال له الملعون: يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في النار؟ فعند ذاك ضج الناس بالبكاء والنحيب.
فأمر الحسن (عليه السلام) بالسكوت ثم التفت الحسن (عليه السلام) إلى الذي جاء به حذيفة فقال له: كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته؟ فقال: يا مولاي كنت نائماً في داري إذ سمعت زوجتي الزعقة، وناعياً ينعي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله أعلام التقى قتل ابن عم محمد المصطفى قتل علي المرتضى قتله أشقى الأشقياء.
فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم؟ وقد قتل إمامك علي بن أبي طالب.
فانتبهت من كلامها فزعاً مرعوباً وقلت لها: يا ويلك ما هذا الكلام؟ رض الله فاك! لعل الشيطان قد ألقى في سمعك هذا أن أمير المؤمنين ليس لأحد من خلق الله تعالى قبله تبعه ولا ظلامة، فمن ذا الذي يقدر على قتل أمير المؤمنين؟ وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام فأكثرت علي وقالت: إني سمعت ما لم تسمع وعلمت ما لم تعلم، فقلت لها: وما سمعت فأخبرتي بالصوت.
ثم قالت: ما أظن أن بيتاً في الكوفة إلا وقد دخله هذا الصوت.
قال: وبينما أنا وهي في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وقائل يقول: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فحس قلبي بالشر فمددت يدي إلى سيفي وسللته من غمده، وأخذته ونزلت مسرعاً، وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يميناً وشمالاً فإذا بعدو الله يجول فيها، يطلب مهرباً فلم يجد، وإذا قد انسدت الطرقات في وجهه، فلما نظرت إليه وهو كذلك رابني أمره فناديته: من أنت وما تريد؟ لا أم لك! في وسط هذا الدرب؟ فتسمى بغير اسمه، وانتمى إلى غير كنيته فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من منزلي قلت: وإلى أين تريد لأن تمضي في هذا الوقت؟ قال إلى الحيرة، فقلت: ولم لا تقعد حتى تصلي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة الغدة وتمضي في حاجتك؟ فقال: أخشى أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي.
فقلت: يا ويلك إني سمعت صيحة وقائلاً يقول قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فهل عندك من ذلك خبر؟ قال: لا علم لي بذلك.
فقلت له: ولم لا تمضي معي حتى تحقق الخبر وتمضي في حاجتك؟ فقال: أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك.
فلما قال لي مثل ذلك القول قلت: يا لكع الرجال حاجتك أحب إليك من الجسس لأمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ وإذا والله يا لكع ما لك عند الله من خلاق.
وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به، فراغ عني فبينما أنا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت إزاره وإذا بسيفه يلمع تحت الإزار وكأنه مرآة مصقولة.
فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلك ما هذا السيف المشهور تحت ثيابك؟ لعلك أنت قاتل أمير المؤمنين فأراد أن يقول: لا.
فأنطق الله لسانه بالحق فقال: نعم، فرفعت سيفي وضربته فرفع هو سيفه وهم أن يعلوني به فانحرفت عنه فضربته على ساقيه فأوقعته ووقع لجينه ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتى أوثقته وجئتك به، فهو بين يديك جعلني الله فداك فاصنع به ما شئت.
فقال الحسن (عليه السلام): الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه ثم انكب الحسن (عليه السلام) على أبيه يقبله وقال: يا أباه هذا عدو الله وعدوك قد أمكن الله منه.
ففتح عينيه (عليه السلام) وهو يقول: أرفقوا بي يا ملائكة ربي.
فقال له الحسن (عليه السلام): هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك.
ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه.
فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة: يا هذا لقد جئت عظيماً، وارتكبت أمراً عظيماً، وخطباً جسيماً، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال يا أمير المؤمنين: أفأنت تنقذ من في النار.
قال له: صدقت ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: إرفق يا ولدي بأسيرك.
وارحمه وأحسن إليه واشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟؟ فقال له الحسن (عليه السلام) يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟ فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً! والرحمة والشفقة من شيمتنا! بحقي عليك فاطعمه يا بني مما تأكله! واسقه مما تشرب! ولا تقيد له قدماً ولا تغل له يداً! فإن أنتا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به.
ولقد أحسن وأجاد المرحوم السيد جعفر الحلي (ره):
لبس الإسلام أبراد الســــــواد يوم أردى المرتضى سيف المرادي
ليلة ما أصبحت إلا وقـــــــــد غلب الغي على أمر الرشــــــــــــاد
والصلاح انخفضت أعلامـــه وغدت ترفع أعلام الفســـــــــــــــاد
ما رعى الغادر شهر الله فـي حجة الله على كل العبــــــــــــــــــاد
وببيت الله قـــد جدّ لـــــــــــه ساجداً ينشج من خوف المعــــــــاد
يا ليال أنـــزل الله بهــــــــــــا ســـــــــــور الذكر على أكرم هادي
مُحيت فيك على رغم العـــــلىآية في فضلها الذكر ينــــــــــــــادي
قتلوه وهــو في محرابـــــــه طاوي الأحشاء عن مـــــــــاء وزاد
سل بعينيه الدجى هـــل جفتـا عن بكا أو ذاقتا طعم الرقـــــــــــاد؟
وسل الأنجم هــل أبصرنـــــه ليلة مضطجعاً فوق الوســـــــــــاد؟
وسل الصبح هــل صادفـــــه ملّ من نوح مـذيب للجمــــــــــــاد؟
عاقر الناقة مع شقـــوتــــــه ليس بالأشقى مـن الرجس المـرادي
فـلقــد عمم بالسيف فـتــــــى عمّ خلق الله طراً بالأيـــــــــــــــادي
فبكتــــه الأنس والجن معـــــاًوطيور الجـــــــومع وحش البوادي
وبكاه الملأ الأعلى دمـــــــــــاًوغدى جبريل بالويل ينـــــــــــــادي
هـــدمت والله أركان الهــدى حيث لا من منــذر فينا وهـــــــــادي

(1) سورة الأحزاب، الآية: 23.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) طريح الفراش
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوان: في مثل صبيحة هذا اليوم وقعت الحادثة الكبرى التي ذكرنا عنها اليسير ليلة أمس، لا يملك القلم واللسان بياناً لشرح الواقعة والدهشة التي استولت على الناس إثر استماع الصيحة السماوية وانتشار الخبر في الكوفة بأسرع ما يكون، وأقبلت الجماهير تتراكض إلى المسجد (محل الحادثة) حتى المخدرات خرجن من خدورهن، وغص المسجد الجامع بالناس، فلا ترى إلا صفق الأيدي على الرؤوس ولا تسمع إلا أصوات النياحة وصرخات الناس، وقد أزدحم الناس حول الإمام ينظرون إلى ذلك البطل الذي كان يخوض غمار الموت، وكانت الأسود تخاف من باسه واسمه، ينظرون إليه وقد أبيض وجهه من نزف الدم، وصلى الإمام صلاة الصبح من جلوس، ثم قال احملوني إلى منزلي.
فحملوه والناس حوله يبكون وينتحبون، وكان الحسن والحسين أشد الناس بكاء وحزناً، فكان الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول: يا أبتاه من لنا بعدك؟ لا يوم كيومك إلا يوم رسول الله، من أجلك تعلمت البكاء، يعز ـ والله ـ علي أن أراك هكذا.
فعزاه الإمام وسلاه، ومسح دموع ولده ووضع يده على قلب ولده وقال: يا بني ربط الله على قلبك وأجزل لك ولأخوتك عظيم الأجر.
أقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة، فصاحت زينب الكبرى وأختها: أبتاه من للصغير حتى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقا! فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وشاركهم الإمام وفاضت عيناه بالدموع.
اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم كان مسموماً، فكان اللبن طعامه وشرابه، ودعي الإمام بولديه وجعل يقبلهما ويحصنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وكان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحاً من اللبن فشرب منه قليلاً، ثم نحاه عن فمه وقال: احملوه إلى أسيركم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليك إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به إلى حين موتي! وتطعمه مما تأكل، وتسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه!! وكان اللعين ابن ملجم محبوساً في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه على قاتله، فشرب اللعين اللبن.
قال محمد بن الحنيفة: بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم إلى قدميه، وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه، ويخبرنا بأمره إلى طلوع الفجر، فلما أصبح استأذن الناس عليه، فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه واقبلوا يسلمون عليه وهو يرد (عليهم السلام) ثم يقول: أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم!! فبكى الناس بكاء شديداً، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفاً عنه فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:
فيا أسفي على المولى النقي أبي الأطهار حيدرة الزكي
قتله كـــــافر حنــــــث زنيم لعين فاســـــق نغل شـــــقي
إلى آخر أبياته، فلما بصر الإمام وسمع شعره قال له: كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ فما عساك أن تقول؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك!! فقال (عليه السلام): وفقت لكل خير يا حجر، جزاك الله عن أهل بيت نبيك.
ثم قال هل من شربة لبن؟ فأتوه بلبن فشربه كله، فذكر (عليه السلام) ابن ملجم وأنه لم يترك له من اللبن شيئاً فقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، أعلموني أني شربت الجميع، ولم أبق لأسيركم شيئاً من هذا! ألا: وإنه آخر رزقي من الدنيا! فبالله عليك ـ يا بني ـ إلا ما سقيته مثل ما شربت، فحمل إليه اللبن فشرب.
كان الناس متجمهرين على باب الإمام ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام في حق ابن ملجم، فخرج إليهم الإمام الحسن وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف، فانصرف الناس، وكان الأصبغ بن نباته جالساً فلم ينصرف، فخرج الإمام الحسن مرة ثانية وقال: يا أصبغ أما سمعت قولي عن أمير المؤمنين؟ قال: بلى، ولكني رأيت حاله، فأحببت أن أنظر إليه فاسمع من حديثاً، فاستأذن لي رحمك الله.
فدخل الحسن ولم يلبث أن خرج فقال له: أدخل.
قال الأصبغ فدخلت فإذا أمير المؤمنين معصب بعصابة، وقد علت صفرة وجهه على تلك العصابة، وإذا هو يرفع فخذاً ويضع أخرى من شدة الضربة وكثرة السم.
فقال لي: يا أصبغ أما سمعت قول الحسن عن قولي؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، ولكني رأيتك في حالة فأحببت النظر إليك، وأن أسمع منك حديثاً.
فقال لي: أقعد، فما أراك تسمع مني حديثاً بعد يومك هذا!! إعلم يا أصبغ: أني أتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عائداً كما جئت الساعة فقال: يا أبا الحسن أخرج فناد في الناس: الصلاة جامعة، واصعد المنبر وقم دون مقامي بمرقاة، وقل للناس: ألا: من عق والديه فلعنة الله عليه، ألا:من أبق مواليه فلعنة الله عليه، ألا: من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه! يا أصبغ: ففعلت ما أمرني به حبيبي رسول الله، فقام من أقصى المسجد رجل فقال: يا أبا الحسن تكلمت بثلاث كلمات أوجزتهن (اختصرتهن) فلم أرد جواباً حتى أتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقلت ما كان من الرجل.
قال الأصبغ: ثم أخذ بيدي وقال: يا أصبغ أبسط يدك، فبسطت يدي، فتناول أصبع من أصابع يدي وقال: يا أصبغ كذا تناول رسول الله الحسن ألا: وإني وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة الله عليه، ألا وإني وأنت موليا هذه الأمة فعلى من أبق عنا لعنة الله، ألا: وإني وأنت أجيرا هذه الأمة، فمن ظلمنا أجرنا فلعنة الله عليه، ثم قال: آمين.
فقلت آمين.
قال الأصبغ: ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال لي: أقاعد أنت يا أصبغ؟ قلت: نعم يا مولاي قال: أزيدك حديثاً آخر؟ قلت نعم زادك الله من مزيدات الخير، قال: يا أصبغ: لقيني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بعض طرقات المدينة وأنا مغموم، قد تبين الغم في وجهي، فقال لي: يا أبا الحسن أراك مغموماً؟ ألا أحدثك بحديث لا تغتم بعده أبداً؟؟ قلت: نعم.
قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله منبراً يعلو منبر النبيين والشهداء ثم يأمرني الله أن أصعد فوقه ثم يأمرك الله أن تصعد دوني بمرقاة ثم يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا استقللنا على المنبر لا يبق أحد من الأولين والآخرين إلا حضر، فينادي الملك الذي دونك بمرقاة: معاشر الناس ألا: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا أدفع مفاتيح الجنة إلى محمد، وإن محمداً أمرني أن أدفعها إلى علي بن أبي طالب، فاشهدوا لي عليه.
ثم يقوم ذلك الذي تحت ذلك الملك بمرقاة منادياً يسمع أهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا مالك (خازن) النيران، ألا: إن الله ـ بمنه وكرمه وفضله وجلاله ـ قد أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلى محمد وإن محمداً قد أمرني أن أدفعها إلى علي بن أبي طالب فاشهدوا لي عليه.
فآخذ مفاتيح الجنان والنيران، يا علي فتأخذ بحجزتي(1)، وأهل بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون بحجزة أهل بيتك.
قال الإمام: فصفقت بكلتا يدي وقلت: وإلى الجنة يا رسول الله؟ قال: إي ورب الكعبة..

(1) الحجزة بضم الحاء: الإزار أو معقد الإزار.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

علي (عليه السلام) يفارق الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
عظم الله أجوركم بمصيبة سيدنا وإمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ففي هذه الليلة قضى نحبه وفارق الحياة، وقد انطوت صفحات تلك الحياة المشرقة، واستراح الإمام من أيدي الناس وأفواههم وانتهت أيام مسؤوليته.
فقد جمعوا له أطباء الكوفة ومن جملتهم: أثير بن عمرو بن هاني السكوني فلما نظر إلى جرح رأس الإمام طلب رئة شاة حارة فاستخرج منها عرقاً ثم نفخه ثم استخرجه، وإذا عليه بياض الدماغ كأنه قطن مندوف فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك وأوص وصيتك فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك.
قال محمد بن الحنيفة: لما كانت ليلة إحدى وعشرين جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم بلزوم الإيمان..
وتزايد ولوج السم في جسده حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرتا جميعاً، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه.
ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب، فنظرنا إلى شفتيه يختلجان بذكر الله، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم واحداً بعد واحد وجعل يودعهم وهم يبكون فقال الحسن: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: يا بني إني رأيت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة فقال لي: أدع عليهم فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم.
فقال لي رسول الله: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث.
وقد مضت الثلاث، يا أبا محمد أوصيك ويا أبا عبد الله خيراً، فأنتما مني وأنا منكما، ثم ألتفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة (عليها السلام) وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين، ثم قال: أحسن الله لكم العزاء، ألا وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (صلّى الله عليه وآله) كما وعدني، فإذا أنا مت ـ يا أبا محمد ـ فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله، فإنه من كافور الجنة جاء به جبرائيل إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير، واحملوا مؤخره، واتبعوا مقدمه، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم ـ يا أبا محمد ـ وصل علي ـ يا بني يا حسن ـ وكبر علي سبعاً، واعلم أنه لا يحل ذلك على أحد غيري إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه: القائم المهدي من ولد أخيك الحسين يقيم اعوجاج الحق.
فإذا أنت صليت علي ـ يا حسن ـ فنح السرير عن موضعه ثم اكشف التراب عنه، فترى قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فتفقدني فإنك لا تجدني وإني لاحق بجدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأعلم يا بني: ما من نبي يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حط فيه.
ثم أشرج اللحد باللبن (جمع لبنة) وأهِل التراب عليُّ ثم غيِّب قبري.
وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وصية أخرى هي من جلائل وصاياه أوصى بها أولاده في مثل هذه الليلة، روى الصدوق في الفقيه عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى أبنه الحسن (عليه السلام) وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمد وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين (عليه السلام) ثم أقبل على أبنه الحسين فقال: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك علي بن الحسين ثم أقبل إلى إبنه علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن تدفع وصيتك إلى ابنك محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل على أبنه الحسن فقال: يا بني أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم، ثم قال أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر (للآخرة) وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.
أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي (وأهلي) ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم (بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم) فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين (وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين) ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يُهوّن الله عليكم الحساب، والله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار، والله الله في القرآن فلا يسبقكم إلى العمل به غيركم، والله الله في جيرانكم فإن الله ورسوله أوصيا بهم (فإنه وصية نبيكم) ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، الله الله في الصلاة! فإنها خير العمل وإنها عمود دينكم، الله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم، الله الله في صيام شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى ومطيع له مقتد بهداه والله الله في ذرية نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثاً ولم يؤوا محدثاً فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أوصى بهم، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم، والمؤوي للمحدث، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن قال: أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت أيمانكم، ثم قال: الصلاة، الصلاة، الصلاة، ولا تخافن في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله عز وجل، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم.
وعليكم بالتواصل والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، وأستودعكم الله خير مستودع، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يا بني عبد المطلب: لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين.
ألا: لا تقتلن بي إلا قاتلي انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
هكذا ينهي الإمام (عليه السلام) أولاده عن إقامة المجازر والمذابح لأجل الطلب بدمه كما كان الأمر في قضايا عثمان، يقول: لا تقتلوا إلا قاتلي.
ينهاهم عن التحقيق عن أصل الفتنة ورجال المؤامرة وأسباب الفساد ويأمرهم بالاكتفاء بالقصاص من القاتل، ثم ينهي عن قطع أعضائه.
ثم عرق جبين الإمام فجعل يمسح العرق بيده فقالت أبنته زينب: يا أبه أراك تمسح جبينك؟ قال: يا بنية سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه.
فقامت زينب وألقت بنفسها على صدر أبيها وقالت: يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية، الحديث كما حدثتك، أم أيمن، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً..
ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين وقال: يا أبا محمد ويا أبا عبد الله كأني بكما وقدج خرجت عليكما من بعدي الفتن من ههنا وههنا فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه.
ثم أغمي عليه وأفاق وقال: هذا رسول الله، وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله، وكلهم يقولون: عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال: أستودعكم الله جميعاً، سددكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله، وكفى بالله خليفة، ثم قال: وعليكم السلام يا رسل ربي، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(1) .
وما زال يذكر الله، ويستشهد الشهادتين، ثم استقبل القبلة، وغمض عينيه ومدد رجليه ويديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم قضى نحبه!! فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين قد فارق الحياة، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها وجميع أقصارها، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتغير أفق السماء، وسمع الناس أصواتاً وتسبيحاً في الهواء، واشتغلوا بالنياحة على الإمام.
ثم قام أولاده لتجهيزه ليلاً، ولما جردوه عن ثيابه، وجدوا على جسده الشريف آثار ألف جراحة من قرنه إلى قدميه وهي الجراحات التي أصابته في سبيل الله في الحروب، وكان الحسن يغسله والحسين يصب عليه الماء، وكان (عليه السلام) لا يحتاج إلى من يقلبه، بل كان يتقلّب كما يريد الغاسل يميناً وشمالاً، لأن الملائكة كانت تقلّبه وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك.
ثم نادى الحسن بأخته زينب وأم كلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله، فبادرت زينب مسرعة حتى أتته به، فلما فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة، ولما حنطوه لفوه بخمسة أثواب ثم وضعوه على السرير وتقدم الحسن والحسين إلى السرير من مؤخره وإذا مقدمه قد ارتفع، ولا يرى حامله، وكان حاملاه جبرائيل وميكائيل، فما مر بشيء على وجه الأرض إلا انحنى له.
وضجت الكوفة بالبكاء والنحيب، وخرجت النساء خلف الجنازة لاطمات فمنعهن الحسن وردهن إلى أماكنهم، والحسين يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنا لله وأنا إليه راجعون، يا أبتاه واإنقطاع ظهراه، من أجلك تعلمت البكاء، إلى الله المشتكى.
أمر الإمام الحسن الناس بالإنصراف، ولم يبق إلا أولاد أمير المؤمنين وعدد قليل من أخص أصحابه المعتمد عليهم، فابتعدوا عن الكوفة في جوف الليل قاصدين النجف، وإذا بمقدم السرير قد وضع، فوضع الحسن والحسين مؤخر السرير، وقام الحسن وصلى مع جماعة على أبيه فكبر سبعاً كما أمر أبوه، ثم زحزح السرير، وكشف التراب وإذا بقبر مقبور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها: هذا ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر بن المطهر.
ولما أرادوا إنزاله إلى القبر سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدهش الناس من سماع الهاتف، وانتهى الدفن قبل الفجر، وأخفوا قبره كما أوصى به، لأنه (عليه السلام) كان يعلم من عداوة الخوارج والأعداء له، فقد روي في منتخب التواريخ أن الحجاج بن يوسف نبش في النجف آلاف القبور يفتش عن جثمان علي (عليه السلام) ولكنه لم يعثر عليه، ولم يزل القبر مخفياً عن الناس لا يعرف به إلا أولاد الإمام وأخصاء الشيعة إلى أيام هارون الرشيد.
قال عبد الله بن حازم: خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة نتصيد فصرنا إلى ناحية الغري، فرأينا ظبيات، فأرسلنا إليها الصقور والكلاب، فحاولتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلى الأكمة فسقطت عليها، فسقطت الصقور والكلاب، فتعجب الرشيد من ذلك ثم أن الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الصقور والكلاب فرجعت الظباء إلى الأكمة، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ففعلت ذلك ثلاثة، فقال هارون: أركضوا فمن لقيتموه آتوني به؟ فأتيناه بشيخ من بني أسد، فقال هارون ما هذه الأكمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتك! قال: لك عهد الله وميثاقه أن لا أهيجك ولا أؤذيك.
قال الشيخ حدثني أبي عن أبيه أنهم كانوا يقولون: هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام) جعله الله حرماً لا يأوي إليه أحد إلا أمن.
فنزل هارون ودعى بماء فتوضأ وصلى عند الأكمة وتمرغ عليها وجعل يبكي، وأمر ببناء القبة على القبر، ومن ذلك اليوم لم يزل البناء في تطور وهو الآن صرح بديع متلألئ، وبناء مشيد من قبة ذهبية ومنارتين ذهبيتين، ومشهد عظيم وضريح فخم في داخله صندوق لا يثمن، والبقعة مزينة بهدايا الملوك والسلاطين على مر القرون، وقد بني المشهد على أحسن هندسة وأبدع فن معماري وأجمل نقوش يتوصل إليها الفكر البشري.
والمعلقات الموجودة والذخائر المكنونة والهدايا الثمينة لا يمكن تقديرها وتثمينها، ويقصد القبر الشريف ملايين من الناس من شرق الأرض وغربها، وكذلك الوفود والسواح من المسلمين.
تأبين علي
ولما فرغوا من دفن الإمام (عليه السلام) قام صعصعة بن صوحان يؤبن الإمام بهذه الكلمات، فوقف على القبر ووضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها التراب وضرب به رأسه ثم قال: بأبي لأنت وأمي يا أمير المؤمنين هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك فتلقاك ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى وشربت بكأسه الأوفى، فأسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفى حق جهاده، وقمت بدين الله حق القيام حتى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام وأنتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك أعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك، سبقت إلى إجابة النبي (صلّى الله عليه وآله) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كل جبار عنيد، وذل بك كل ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين كنت أقرب الناس من رسول الله قربى وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً.
فهنيئاً لك يا أبا الحسن، لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نسباً، وأولهم إسلاماً وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً، فلا حرمنا الله أجرك، ولا ذلنا بعدك، فوالله لقد كانت حياتك مفاتيح للخير ومغالق للشر، وإن يومك هذا مفتاح كل شر ومغلاق كل خير، ولو أن الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة.
ذكر ابن أبي الحديد أن صعصعة بن صوحان العبدي رثا أمير المؤمنين علياً بهذه الأبيات:
ألا، من لي بأنسك يا أخيـــــــا ومــن لي أن أبثك ما لديـــا؟
طوتك خطوب دهر قد تولــــى لذاك خطوبه نشراً وطيـــــا
فلو نشرت قواك لي المنايـــــا شكــوت إليك ما صنعت إليا
بكيتك يا علي بدرّ عينـــــــــي فلم يغن البكاء عليك شيـــــا
كفى حزناً بدفنك ثم إنــــــــــي نفضـت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظـــــاة وأنت اليوم أوعظ منك حيــا
فيا أسفي عليك وطول شوقي ألا لو أن ذلك رد شيــــــــــا
ثم بكى بكاءً شديداً وأبكى كل من كان معه، وعدلوا إلى الحسن والحسين ومحمد وجعفر والعباس ويحيى وعون وعبد الله، فعزوهم في أبيهم وانصرف الناس ورجع أولاد أمير المؤمنين إلى الكوفة ولم يشعر بهم أحد:
قم ناشد الإسلام عن مصابـــــــه أصيـب بالنبي أم كتابــــــه
بلى قضى نفـس النبي المصطفى وأدرج الليلة في أثوابـــــه
فاصفر وجــــه الدين لاصفـراره وخضــب الإيمان لختضابـه
قتلتم الصلاة في محرابهــــــــــا يا قاتليه وهو في محرابـــه
ثم عمدوا إلى عبد الرحمن بن ملجم فقتلوه، وهجم الناس على قطام وقطعوها بالسيوف ونهبوا دارها وأحرقوا جثتها وجثة أبن ملجم.
في ناسخ التواريخ لما توفي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقتل أبن ملجم، خرج أبن عباس إلى الناس فقال: إن أمير المؤمنين توفي، وقد ترك لكم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.
فخرج الإمام الحسن وعليه ثوب أسود، واعتلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولم يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وكان رسول الله يوجهه برايته، فيكفيه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
ولقد توفي في الليلة التي نزل فيها القرآن، وعرج فيها بعيسى بن مريم، والتي قبض فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطيته أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس..

(1) سورة النحل، الآية: 128.
 

العـ عقيل ـراقي

اجملُ شيء التجاهل..
إنضم
1 مايو 2014
المشاركات
40,777
مستوى التفاعل
11,825
النقاط
221
الإقامة
العراق
رد: من المهد الى اللحد..الامام علي عليه السلام..1

ختام واعتذار
أيها الإخوان لقد قضينا معكم هذه الليالي الثمينة بالتحدث عن شخصية الإمام أمير المؤمنين، وقد كان حديثنا يدور حول ترجمة حياته المتلألئة وذكرنا ما تيسر، وأود أن أحيطكم علماً وأحلف لك يميناً لا حنث فيه بأني لم أذكر عشراً من معشار فضائل الإمام ومناقبه، فلقد فاتنا التكلم عن قضاء أمير المؤمنين ومعجزاته وكثير من خططه الحربية وسياسته الحكيمة وترجمة زوجاته وأولاده وبناته وكلماته القصار وآثاره الطيبة الخالدة، ومن الله نسأل أن يحقق الآمال ونتدارك ما قد فات.
وسلام الله على أمير المؤمنين يوم ولد في الكعبة ويوم مات شهيداً في سبيل الله ويوم يبعث حياً للشفاعة.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم.
وعلى الجميع مراجعتها بين الحين والاخر
وارجو التمعن بها والتفحص
وذاك لعلوم جَمَ هنا
امنياتي
خادم الزهراء ع
عقيل
 

الذين يشاهدون الموضوع الآن 1 ( الاعضاء: 0, الزوار: 1 )