أعشق الليالي الباردة ما بين كتاب وأمطار على نافذة غرفتي ليلًا، حيث يصبح كل شيء أكثر دفئًا رغم برودة الطقس. صوت المطر وهو يطرق الزجاج كأنّه موسيقى هادئة تهمس في أذني، والكتاب بين يديّ يأخذني إلى عوالم أخرى، بعيدة عن ضجيج الواقع. رائحة الورق، مع فنجان قهوة دافئ، تكتمل بها لحظة الصفاء، وكأن العالم كله توقف ليمنحني هذه السكينة.
في مثل هذه الليالي، تصبح الوحدة رفيقة محبّبة، لا تُخيف، بل تُشعرني بأنني أقرب إلى نفسي. تتلاشى الضوضاء الداخلية، وتبدأ الأفكار بالانسياب بسلاسة. أكتب أحيانًا، أو أكتفي بالتأمل في قطرات المطر وهي تنزلق بخفة، كأنها دموع السماء على أسرار لا نعرفها. الليل، الكتاب، والمطر، ثلاثية لا تُملّ، تلامس الروح وتربت على القلب بلطف لا يجيده إلا نوفمبر.
تفوح منه رائحة الراحة والطمأنينة، كأنّه وعد صغير بنهاية أسبوع متعب وبداية وقت مستحق للهدوء. يحمل في طياته نكهة مختلفة، فيها خفة الأيام الجميلة وترقب الساعات الباقية للانفلات من ضغط الروتين. يمرّ الخميس بخطى ناعمة، لا عجلة فيه، كأنّه يدعونا للتريّث، للاستمتاع، ولأن نمنح أنفسنا لحظة تأمل قبل أن نغرق في صخب العطلة.
في مساء الخميس، تضيء البيوت بأنوار دافئة، وتجتمع الأرواح على طاولة واحدة، ضحكة هنا، فنجان قهوة هناك، وأحاديث تتسلل من القلب بلا تكلّف. حتى الهواء يبدو مختلفًا، يحمل نسمات من الأمل، ومن خطط مؤجلة لعطلة ننتظرها منذ بداية الأسبوع. إنه يوم له طقوسه الخاصة، لا يشبه غيره، يوم يبدأ فيه القلب بالاستعداد للفرح، والعقل بالتحرر من ثقل الأيام الماضية.
ليلة الويكند ، والأجواء لا توصف... هواء لطيف يداعب وجهي وكأنّه يهمس لي: تمهّل، استمتع. أجلس في بلكونة غرفتي، أحتضن كتابي وكأنّه رفيق روحي في هذا الليل الهادئ، وعيناي بين السطور تارة، وتارة أخرى تتأمل القمر المتلألئ في السماء الصافية.
كل شيء حولي ساكن، إلا قلبي ينبض بامتنان لهذه اللحظة. لا ضجيج، لا مسؤوليات، فقط أنا وهذا السكون الفاخر. القمر يرمقني بنوره الهادئ، وكأنه يشارك معي هذا الصفاء، ونسيم نوفمبر يحمل معه شيئًا من الحنين وشيئًا من السلام. إنها لحظة لا تُشترى، تُعاش بكل حواسك، وتُحفظ في القلب كذكرى دافئة تُستعاد كلما ضاق الوقت.
يقولون إنه يوم تحقيق الأمنيات، أما أنا فأمنيتي الوحيدة أن
أبقى وحدي. تعبت من العتاب ومن الرسائل التي تصلني دون رغبة، من الكلمات التي تأتي متأخرة، ومن الاهتمام الذي يشبه الواجب. لا أريد أن أُعطي أكثر، ولا أن أُبرر برودي، ولا أن أُقنع أحدًا أنني بخير، كل ما أريده الآن هو الصمت، أن أختفي بعمقٍ داخل نفسي، أن أكون في مكانٍ لا يسمعني فيه أحد. كرهت الحب، لا لأنني خُذلت، بل لأن فكرته صارت عبئًا، يُربك صفاء الروح حين كانت بخير، ويُربّي فينا الوهم والانتظار، كمن يزرع في القلب حاجةً لا تشبع. لا أريد حبًا، ولا حنينًا، ولا أن أكون جزءًا من أحد، لقد اكتفيت من فكرة أن اكتمالي مرهونٌ بوجود آخر. أشعر بالقرف، من العاطفة حين تُطلب، ومن المبالغة في الإحساس، ومن كلّ ما يجعلنا نذوب لنرضي وهم الدفء. الآن، لا حبّ ولا كره، فقط سكونٌ بارد يشبه الخدر، مرحلة وسطى بين الحياة والموت، بين الوجود والغياب، حيث كلّ شيءٍ داخلي ساكن، كجدارٍ فقد صدى الخطى. ربما الوحدة ليست هروبًا، بل شكلٌ آخر من النجاة. تعبت من المحاولات، من التفسير، من الأمل الذي لا يعود، كلّ ما أريده هو أن أبقى وحدي ، بعيدةً عن الضجيج، عن الوجوه